التخريب وإعادة الإعمار

آراء 2023/03/23
...

 ميادة سفر

تعرضت الكثير من المدن للتدمير عبر التاريخ، سواء بفعل الحروب والطغاة وإما نتيجة عقاب إلهي، كما تنقل لنا القصص عن قوم عاد وثمود على سبيل المثال، بسبب الفسق والفجور كما تحكي الروايات المتداولة، غير أن تدمير المدن اليوم لم يعد يقتصر على تلك الأسباب

وإن بقيت الحروب السبب الأساسي للتدمير إضافة للكوارث الطبيعة من زلازل وبراكين وفيضانات، حيث تحول الأمر إلى فعل متعمد وجزءاً من لعبة سياسية واقتصادية هدفها الأول والأخير الربح، حيث يعتبر تدمير المدن وما يتبعه من إعادة إعمار جزءًا من دورة اقتصادية بين عدة أطراف الكل فيها مستفيد.

فقد أصبحت عمليات الهدم وإعادة إعمار المدن إحدى الصفقات الاستثمارية، التي تتهافت عليها الدول والشركات، مع ما يترتب عليها من إعادة تشكيل وهندسة المدن بما يتوافق مع التطور والزيادة السكانية، حين تدعو الحاجة إلى شق الطرق والاستردادات ومد الجسور وتشييد المباني الضخمة، لا تتواني الشركات والحكومات من هدم عشرات، بل مئات البيوت وتشريد آلاف السكان تحقيقاً وتنفيذاً لصفقة تجارية تدر الكثير من الإيرادات، دون أن تقدم لهؤلاء ما يسد الرمق.

لإعادة تشكيل وإعمار المدن التي دمرت بفعل الحروب أو الزلال نتائج خطيرة من شأنها إعادة تغيير الملامح العمرانية لتلك المدن بشكل كامل غالباً ما يكون متعمداً، إن من الناحية الحضارية العمرانية أو حتى الديموغرافية للسكان، على سبيل المثال تناقلت الأخبار عن الدمار الذي أحدثه الزلزال الذي ضرب مؤخراً سوريا وتركيا، وأدى إلى خسارة جزء كبير من مدينة أنطاكيا التاريخية في تركيا بما فيها من تراث عمراني وأوابد تحاكي حقب زمنية تعود إلى العصر الروماني، ويبدو أنّ إعادة بنائها كما صرح المسؤولون لن يعيد إليها شكلها وملامحها التي كانت قبل الزلزال، الأمر الذي يعني خسارة كبيرة على المستوى التراثي والحضاري وفقدان شواهد كثيرة عن عصور مرت على تلك المنطقة.

من جهة أخرى، تشكل عمليات إعادة الإعمار فرصة لبعض الدول لفرض هيمنتها وسيطرتها عبر القنوات الاقتصادية من تمويل وغيره على الدول المدمرة، مع ما يترتب على ذلك من خسائر تتكبدها البلاد التي عانت مدنها من القتل سواء عن قصد أو عن غير قصد، وفي التاريخ الكثير من الأمثلة على استغلال بعض الدول لظروف إعادة بناء ونهوض دول أخر، كما حصل في نهاية الحرب العالمية الثانية عبر إطلاق الولايات المتحدة الأميركية لمشروع مارشال، الذي أعلن عن تقديم المساعدات لإعادة إعمار أوروبا المدمرة وتقديم القروض والبضائع والمواد الخام، مما أدى إلى انتعاش وتطور الاقتصاد الأميركي مقابل بقاء الدول الأوروبية تابعة لها بسبب حاجتها المادية، وما الدول المانحة التي تعلن تقديم مساعدات لبلد عربي هنا وآخر هناك، والقروض السخية التي يقدمها البنك الدولي، إلا وسيلة وأداة لإحكام سيطرة الدول العظمى على مقدرات البلدان الضعيفة وبالتالي الاستيلاء على ثرواتها والتحكم بقراراتها السياسية وتحالفاتها.

إنّ إعادة إعمار المدن التي دمرتها الكوارث والحروب هو بمثابة ترميم للذاكرة الجمعية للمكان، وإعادة إحياء روح المدن والسكان، سواء عبر الحفاظ قدر المستطاع على الطابع العمراني غير المشوه، لاسيما للمدن العتيقة، أو من خلال تمكين السكان من العودة إلى أحيائهم لأن البشر هم من يمنح الأماكن حياتها، وهو ما يجب أخذه في اعتبار الحكومات المقبلة على بناء 

مدنها.