دبلوماسيَّة معتدلة

آراء 2023/03/26
...

 عباس الصباغ 


شاءت المقادير الجيبولوتيكية أن يقع العراق في قلب الشرق الأوسط ويُحاط بمنظومة إقليمية وجيوسياسية متناقضة سياسياً وطائفياً وديموغرافياً، أبرزها عملاقا تلك المنظومة إيران والسعودية واللذان شهدت علاقاتهما توتراً دبلوماسياً واضحاً ومستمراً منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران (1979)


ومنذ ذلك التاريخ لم تكن العلاقة بينهما على ما يرام على خلفية حرب الخليج الأولى (1980 ـ 1988) واتهام السعودية بالانحياز إلى نظام صدام في تلك الحرب، ورغم أن تلك العلاقات انقطعت منذ عام 2016 بعد اقتحام السفارة السعودية في طهران بسبب إعدام الرياض رجل الدين الشيعي العلامة النمر، وتحميل السعودية إيران المسؤولية عن هجمات صاروخية وبطائرات مسيرة (درون) على منشآت نفطية بالمملكة عام 2019، وهجمات على ناقلات في مياه الخليج العربي فبقي كلاهما على طرفي نقيض في معظم الملفات الاقليمية أبرزها ملفات النزاع في اليمن وسوريا ولبنان والبحرين والعراق، وقد مرت العلاقات الإيرانية ـ السعودية بمراحل عدة أخذت طابعاً تصعيدياً دموياً في الغالب، ولكن نظراً للتحولات الدولية والإقليمية وانعكاسها على الإقليم ارتأت الدول الكبرى قراراً بالتهدئة في الإقليم وخاصة بعد حرب اليمن.

إلا أن إعادة الروح إلى تلك العلاقات لم تكن سهلة وذلك من خلال الراعي الصيني وجهود كل من سلطنة عمان والعراق والذي أكد مراراً على أنه لن يكون منطلقاً لتهديد أي جهة ويتطلع إلى شراكات اقتصادية عميقة ومستدامة، تجمعه بشعوب المنطقة كلها، لا سيما أن الولايات المتحدة كانت تنظر بعين الريبة والشك والبرود للطرف المناوئ لها (إيران) وكما صرح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي: (بوجه عام، نرحب بأي جهود للمساعدة في إنهاء الحرب في اليمن وتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط) وهي إشارة غامضة لمستقبل تلك العلاقة وليست بعيدة عن تجاذبات ماراثون الملف النووي الإيراني، ولكن الإعلان لا علاقة له بالطموحات النووية الإيرانية كما «يبدو». ومن المفرح أن الاتفاق قد تضمن تأكيد الطرفين على «احترام» سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة عام2001، إضافة إلى اتفاقية أخرى سابقة للتجارة، والاقتصاد، والاستثمار، ويسهم في إعادة التوازن الأساسي للنظام الإقليمي في الشرق الأوسط، إذ أدرك كل من البلدين أن عليهما التفرغ لترتيب بيتهما الداخلي أولاً، فالمكاسب المنتظرة من السلام أكبر بكثير من المخاطر الناجمة عن استمرار العداء بينهما، وهو ما تمنته جميع الدول كما شكل صفعة مدوية لإسرائيل وخيبة كبيرة لآمالها ولخططها في المنطقة خاصة مع السعودية.

وهو خطوة يمكن أن تؤشر لمرحلة جديدة إيجابية في العلاقات الثنائية قد تكون مفيدة للإسهام في تحقيق قدر من الاستقرار إقليمياً، وتؤسس لهدوء سياسي يخدم مصالح شعوب ودول المنطقة والعالم فقد دفعَت شعوب المنطقة أَثماناً باهظةً جداً ومنها العراق واليمن، فضلاً عن التراشق الإعلامي والسيبراني والتلويح بالفصائل المسلحة واستعراض العضلات.

اللاعب الصيني ذو الدور الستراتيجي والحيوي ـ وتراجع اللاعب الأميركي لأسباب تكتيكية ولتفرغه في محاور أخرى كالأزمة الأوكرانية ـ كان حاضراً في عملية التطبيع الذي اشترط عدم الخوض في حروب الوكالة أو التعرض للطرف الآخر ولحفظ ماء وجهيهما بالمعنى الأدق فالسعودية تورطت حد النخاع في المستنقع اليمني بينما إيران ما زالت تئن من العقوبات الاقتصادية الأميركية التي جعلت عملتها الوطنية في الحضيض، ناهيك عن العزلة السياسية والدبلوماسية الخانقة وسبب تداخلاتها الجيوسياسية / الطائفية في المنطقة.

 (السعودية وإيران) هما عملاقا الشرق الأوسط والعمود الفقري لمنظمة أوبك ومنجم العالم للطاقة، فلا بد من أن يتحرك الجميع لاحتواء أزماتهما قبل أن تندلع حرائق النفط ويشتعل الشرق الأوسط برمته ومعه العالم.