سكانُ فوكوشيما والتأني في العودة

بانوراما 2019/04/15
...

جستن ماكيري
ترجمة: بهاء سلمان
صبيحة الحادي عشر من آذار 2011، ضرب أحد أكبر الزلازل المسجلة تأريخيا ساحل اليابان الشمالي الشرقي، محفزا حدوث موجة بحرية هائلة “تسونامي” قتلت نحو 19 ألف انسان. وفي فوكوشيما أطلقت القوى المدمرة للأمواج العنان لتهديد آخر خطر للغاية، حيث حصل انهيار ثلاثي في محطة فوكوشيما دايتشي النووية لانتاج الطاقة الكهربائية.
واجبر الإشعاع عشرات آلاف الناس على المغادرة، محيلا البلدات والقرى الى مناطق خالية من البشر. اليوم الأحياء السكنية الأقرب جوارا للمحطة ظلّت محاصرة من حينها، فالمنازل بحالة سيئة والأعشاب الضارة والنباتات الأخرى تركت لتبتلع الأرصفة والطرق والحدائق التي كانت في ما مضى معتنى بها جيدا، بينما تجوب الخنازير والحيوانات البرية الأخرى الشوارع
عودة الحياة
مقابل ذلك وعلى مقربة من تلك المناطق، هناك علامات على التعافي والانتعاش، حيث تنتشر المحال التجارية والمطاعم الجديدة والمباني الحكومية العامة التي تقدم الطعام للعدد الصغير من الناس الذين قرروا العودة. ويتم حاليا العمل على استعادة خدمات السكك الحديدية واعادة افتتاح الطرق؛ وستنطلق مناوبة حمل الشعلة الأولمبية لأولمبياد طوكيو 2020 من ملعب “قرية جي” الذي كان في السابق يمثل قاعدة الاستجابة للكارثة، والذي استعاد حاليا دوره السابق كمجمع تدريبي للعبة كرة القدم. لكن هذه الحالات تعد مكاسب متواضعة، ففي المناطق التي تم اعلانها آمنة لسكن الناس، قرر العديد من السكان البقاء بعيدا عن المنطقة، ذاكرين تخوّفهم من الاشعاع، وعلى وجه الخصوص لأطفالهم، والنقص الحاصل في المرافق الطبية والمباني الأخرى المرتبطة بالبنية التحتية الخاصة بالرعاية الاجتماعية. وعاد ما نسبته 23 بالمئة فقط من أولئك الذين كانوا يقطنون في المناطق التي أعلنت خارج حدود الإشعاع بعد حصول الكارثة، بحسب بيانات الحكومة اليابانية.
ويواصل العاملون في محطة فوكوشيما خوض المعارك مع كميات هائلة من المياه النشطة إشعاعيا، في الوقت الذي يتوقع فيه أن تستلزم عملية تفكيك المحطة هندسيا ما لا يقل عن أربعة عقود. وبعد مرور ثماني سنوات على ثاني أكبر كارثة نووية شهدها العالم، بعد كارثة تشيرنوبل، إلتقت صحيفة الغارديان الساكنين الذين اتخذوا قرارا باستئناف حياتهم في الأماكن التي تم اعلانها في الماضي منطقة نووية محظور دخولها، ويشرعون بالعمل والدراسة وقضاء سنواتهم الأخيرة في المكان الذين يطلقون عليه مسقط الرأس. 
 
مالك الأرض
صار “سيمي ساساكي” نجما شهيرا على المستوى المحلي خلال الثماني سنوات التي قضاها أثناء معيشته في الاسكان المؤقت للأشخاص الذين تم اخلاؤهم، فقد كان جزءا من مجموعة من الساكنين الذين انشؤوا تدريجيا الإحساس بالانتماء الى المجتمع من خلال تمارين رياضية تمارس يوميا في الصباح الباكر. وبسن يبلغ 93 عاما، يعد ساساكي سائقا متمرسا من الذي يمكن له التعرّف على الطرق بشكل تام في منطقة اوداكا، حيث وضعت عائلته جذورها منذ ما يقارب من خمسمئة سنة. 
وانتقل مالك الأرض وساكن الحراج هذا قبل عدة أسابيع عائدا الى منزله الكبير المبني من الخشب؛ ويسكن على مقربة منه أبناؤه الثلاثة وعوائلهم، غير أنه يصر على رعاية نفسه بنفسه، وهو تصميم مثابر يعزوه الرجل المسن الى اسلافه من الساموراي، حتى لو عنى ذلك قضاء أوقات طويلة وحيدا بمفرده. وكان الحي السكني الذي رجع اليه ساساكي مسكنا لنحو 230 شخصا، لكن فقط 23 فردا عادوا اليه، بمعدل عمري بلغ أكثر من سبعين عاما، كما يقول، قبل أن تتلاشى أسماء عوائلهم من الوجود: “لا يسعني تخيّل ماذا سيكون عليه مستقبل هذه القرية، فأنا أخشى حقا من زوال قريتنا بشكل بطيء،” يقول ساساكي.
برغم ذلك، يحاول ساساكي أن يبقى متفائلا: “أنا أتمتع بصحة جيّدة ويمكنني استخدام مرافق الرعاية النهارية من دون مقابل مادي لأنني من الأشخاص الذين تم اجلاؤهم، وأنا مستمر بالتواصل مع أصدقائي الباقين ضمن الإسكان المؤقت.” غير ذلك، هناك أمر بسيط يخص سيارته التي يعشقها: “ستنتهي نفاذية رخصة السياقة خاصتي في كانون الأول القادم، وأنا لا أعرف ماذا سأفعل حيال ذلك.” ومن باب الاعتراف بالهزيمة، وبسبب سنه، ربما سيكون الوقت قد حان للتخلي عن رخصة السياقة. تقبع في الخارج دراجة بخارية صغيرة مستعملة منحها إياه أحد أصدقائه. قفز ساساكي على الدراجة، لكنها لم ترق له: “إنها بطيئة للغاية ... وهي لا تبدو كونها ذات مظهر رائع.”
 
الشقيقتان التلميذتان
في مدرسة الشقيقتين “روميكو” و”ايريكو كونو”، لا يعد لفت انتباه المعلّم من المشاكل إلا نادرا، فالشقيقتان هما طالبتان ضمن سبعة تلاميذ فقط يحضرون الدوام المدرسي لمدرسة نامي سوسي الابتدائية والمتوسطة التي تبعد ميلين ونصف الميل عن المحطة النووية. المدرسة المبنية حديثا، والمتكاملة المرافق بملعب لكرة القدم يصلح لجميع الأجواء، تم تشييدها بأموال حكومية ضمن مسعى لاعادة العوائل الشابة الى منطقة نامي، حيث كان يسكنها قبل الكارثة 21 ألف نسمة، عاد منهم لغاية الآن 900 فرد فقط منذ صدور أمر برفع جزئي لأمر الاخلاء قبل سنتين.
تقول “مايومي”، والدة الطفلتين: “كنت في حالة صراع من أمر اعادة عائلتي الى المنطقة، لكن حاليا، ومع مرور عام على رجوعنا، حالتهما غاية في الاستقرار، كما وجدت عملا لي، وأنا على يقين من إقدامنا على فعل الشيء الصحيح.” وسوف تستقبل المدرسة ستة طلاب آخرين عندما تبدأ السنة الدراسية الجديدة شهر نيسان المقبل. ويقول “قيوتشي بابا”، مدير المدرسة: “على مدى السنة الماضية، حقق التلاميذ تقدما هائلا، لكن يبقى الأمر الأكثر إحباطا لهم هو عدم تمكنهم من لعب الرياضات الجماعية الفرقية.” وتقول كل من روميكو، 11 سنة، وايريكو، 8 سنوات، إنهما تفتقدان للعب كرة المناورة ولعبة الغميضة. “أنا أرغب بالمزيد من التلاميذ معي في الصف، لكن هذا الحال سيجلب نوعا مختلفا من الضغوط،” كما تقول روميكو.
ويتم تدريس التلاميذ حوادث التسونامي والتسرب النووي في المدرسة، لكن يجدون من الصعب عليهم ربط الموضوع مع شيء كانوا صغارا للغاية حتى يتذكروه. تقول روميكو: “حصلت الحادثة قبل ثماني سنوات، بالتالي لا يمكنني حقا التفكير بها، وأنا أشعر بالقلق حيال الناس الذين ينبغي عليهم التعامل مع الكوارث الطبيعية في يومنا هذا.”
 
مُزارع الرز
عندما عاد “كيوتشي نيموتو” لأول مرة الى حقله الزراعي الواقع ضمن قرية موموتشي بمنطقة فوكوشيما قبل ثلاث سنوات، كان حلمه زراعة ما يكفي من الرز لاطعام عائلته؛ غير أن حظرا على انتاج الرز أرغمه على الانتظار: “أنا أزرع كميات محددة وأفحصها، وكانت أدنى كثيرا من الحدود الاشعاعية المعدة من قبل الحكومة، لكن توجّب علي التخلّص منها، لأنها كانت تخالف القانون الذي لا يسمح لي بتناول ما أنتجه من رز.”
حاليا، تم رفع القيود، ويعمل المزارع البالغ من العمر81 عاما، الرائد في قطّاع الزراعة العضوية لفوكوشيما، بزراعة الرز على نحو تجاري مجددا، مجهزا المحصول الى مصنع الجعة المجاور، اضافة الى الأسواق والمطاعم: “لم أفكر مطلقا في التخلي عن مزرعتي. كانت هناك شائعات مؤلمة حول رز فوكوشيما في بداية الأمر، لكن الآراء تتغير، فأصدقائي وأقاربي يشعرون براحة أكبر حيال تناول الرز المنتج هنا أكثر من أي رز منتج في مقاطعات أخرى لم يتم فحصه.”
انها صرخة بعيدة من سنين قضاها كيوتشي في منفى الإخلاء، متسائلا إن كان بمقدوره في وقت ما العودة الى زراعة الرز مجددا. ومع ذلك، ولكونه المزارع الوحيد من ضمن ثمانية مزارعين في موموتشي الذي قرر العودة لاحياء عمله بعد صدور قرار رفع الإخلاء، فهو يمثل حالة استثنائية. هذه الأيام، ومع ذلك، يقول كيوتشي انه غير قلق من الإشعاع بقدر قلقه من الأعشاب الضّارة التي تجاوزت بشكل كبير على حقله: “ينبغي على المزارع توقع هذا الأمر عندما يقوم بالزراعة العضوية، لكن الرز الذي أنتجه يفوز دائما في النهاية.”
 
أصحاب الحانة
عندما سمع كل من “توموكو” و”تاكينوري كوباياشي” صوت انفجار هائل في إحدى مباني المفاعل النووي، قاما بتجميع حاجياتهما الثمينة، وغادرا “فوتابا يا”، الحانة ذات الطراز الياباني التقليدي ضمن منطقة اوداكا التي امتلكتها عائلة توموكو لأربعة أجيال، وكانا على قناعة محتّمة أنهما سيتمكنان من العودة بعد عدة أيام، فتقول توموكو: “كنا في مركز الاخلاء عندما شاهدنا لأول مرة صورا للتسونامي والكارثة النووية، وحينها فقط أدركنا كم كان الوضع سيئا للغاية”.
لم يعد الزوجان الى منطقتهما لغاية حزيران 2016 بعد صدور أمر رفع الإخلاء في اوداكا، وبينما كان حيهما السكني لا يزال خارج الحدود المسموح بالتحرك فيها، قامت توموكو بزيارات متكررة قصيرة لترميم الحانة، وزرعت الورود خارج محطة سكك الحديد القريبة: “كنا عازمين على العودة سيرا على الأقدام.” وسرعان ما امتلك الزوجان خبرة بالإشعاع والسلامة الغذائية. يقول تاكينوري: “كنا نقوم بتفحّص الطعام للتجمع السكاني المحلي طيلة سبع سنوات، ونحن نعلم أنه آمن، ومنحتنا هذه الممارسة الثقة بالعودة والشروع بالعمل مجددا.”
وتشمل قائمة زوار حانة فوتابا يا عددا متزايدا من سواح قادمين من بلاد أخرى، يملؤهم شغف معرفة المزيد حول فوكوشيما. تقول توموكو: “نحن نريد من الناس أن يبقوا هنا، وأن يعودوا بمشاعر معرفتهم بشكل أكبر لحقيقة ما حصل. إلا أننا لا يسعنا التظاهر بأن الأمر كان سهلا، فقد مرت علينا بعض الأوقات العصيبة بشكل استثنائي.”
 
مُزارع الألبان
قبل ثماني سنوات، كان “تيتسوجي ساكوما” عاجزا عن منع ما حصل من دمار لمزرعة الألبان التي شيّدها جده بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة. وخلال أيام بعد حصول الانهيار النووي، نفقت بعض من بقراته التي كانت تزيد عن 130، بينما تم بيع أخريات الى مزرعة ما أو ذبحهن؛ وتطلب منه التخلّص من كميات كبيرة من الحليب. والآن، عاد ساكوما الى عمله بعد صدور أمر رفع الحظر عن تسويق الحليب الخام من فوكوشيما أواخر سنة 2017. 
وتبيّن الفحوصات الدقيقة أن الحليب المنتج من بقراته لا غبار عليه، وهو صالح للاستهلاك البشري، لكن التغلّب على الشكوك التي ساورت المشترين المحتملين مثل تحديا جديا في بداية الأمر: “درست عن الاشعاع، وكنت متهيئا لأية أسئلة ربما تطرح حول السلامة،” يقول ساكوما، الذي استلم مزرعة العائلة الكائنة في قرية كاتسوراو من والده قبل عشرين عاما.
وقرر الكثير من المزارعين المحليين بيع كامل ممتلكاتهم لخشيتهم من أن كبر سنهم لن يمكنهم من إعادة إحياء نشاطاتهم التجارية، اضافة إلى أن انتاجهم سيبقى ملطخا بوصمة الارتباط بكارثة فوكوشيما النووية. وعاد فقط عشرين بالمئة من سكان القرية، أو 300 فرد تقريبا. 
يقول ساكوما: “كلما ظل الناس يعيشون لفترات أطول في أماكن أخرى، كلما صعب عليهم العودة الى الديار، لكننا عملنا بجد واجتهاد على مدى سنين لتحقق هذه المزرعة نجاحا، وشيّدنا حظائر الأبقار بأنفسنا، وهي لا تزال قائمة الى يومنا هذا، ولكوني ابنا لعائلة تنتج الألبان، كنت مصمما على اعادة المزرعة للعمل، كي أظهر للناس أن كل شيء ممكن، حتى في فوكوشيما المنكوبة.”
 
صحيفة الغارديان البريطانية