عبدالأمير المجر
من البديهيات التي يعرفها الجميع، علماء وبسطاء على حد سواء، أن المريض الذي يتجاوز مرضه ويبدأ بالتشافي، يمرُّ بمرحلة تسمى النقاهة.. وهذه المرحلة تتميز بحساسية خاصة، اذ يحرص المريض وأهله وأطباؤه على ان يكون كلُّ شيء خلالها محسوبا، لكي يستعيد الجسم كامل لياقته الصحية، وأن أي خطأ أو تصرف غير سليم، قد يسبب انتكاسة للمريض... الشعوب والدول، تتعرض إلى أمراض مختلفة، بعضها بسيطة تواجهها بشكل مستمر وتتغلب عليها بما تمتلكه من امكانيات ذاتية، وادارة جيدة، وبعضها يهدد وحدتها ويدمر مستقبلها، وهو الاخطر، لا سيما اذا كانت هذه الأمراض ترتدي لبوسا ثقافيا وحساسية، تتصل بالضمير الجمعي لفئات مختلفة من الشعب، وتقف وراءها قوى خفية تهدف إلى تدمير أو تقويض هذه الدولة أو تلك، من خلال زج شعبها في خلافات وصولا إلى هدف بعيد يغفل عن فهمه البسطاء، أو يقعون تحت المؤثرات العاطفية التي يستخدمها أصحاب الهدف لزجهم في صراع لا مصلحة لهم فيه.. وهو ما حصل فعلا وبشكلٍ غير مسبوق من خلال ما شاهدناه من صراعات طائفية وعرقية، عصفت بمنطقتنا قبل أكثر من عقد من الزمن، وقبلها ما حصل للعراق من احتلال وما أعقبه من أحداث تقنّعت طائفيا، لتزج الشعب في صراع ينتهي إلى تقسيمه، وقد انجرف البعض من الخفيفين، الذين هم كالقش دائما امام الريح ويستخدمون في تنفيذ المخططات من دون ان يعلموا.
وقد ترك هذا جرحا عميقا في الوجدان العام، بفعل ما ترتب عليه من افعال اجرامية مازلنا نتألم منها ومن نتائجها.. ولعلنا اليوم، عراقيين وعربا تجاوزنا تلك الحقبة السوداء، لكننا لم نتجاوز آثارها المدمرة تماما.. وهذه المرحلة التي نعيشها اليوم، هي مرحلة نقاهة ثقافية وبالتأكيد ايضا نقاهة وطنية بعد ما تعرضت الوطنية، كمفهوم، إلى تسفيه ومحاربة من خلال اعلاء الخطاب الطائفي والجهويات الضيّقة، والتشكيك الذي رافق تلك الحملة بوجود هذه الأوطان ومسمياتها اصلا! ولعلنا قرأنا كثيرا من الكلام، وشاهدنا كثيرا من الاعمال الفنية التي رافقت الحملة ومثلت الجانب (الثقافي) لها، وقد سفحت لأجل ذلك المليارات وسقط فيها الكثير من أدعياء الثقافة، ممن انخرطوا وروجوا لتلك الخطابات المأزومة.. نعم، نحن اليوم نعيش فترة نقاهة ثقافية ووطنية وتحتاج شعوبنا في هذه المرحلة الحساسة إلى من يعيد الثقة إلى نفوس من اهتزت الوطنية بداخلهم، وكذلك قيم الدين السليم ووجدوا انفسهم منخرطين في اللعبة المعدة لهم أو من لديهم الاستعداد اصلا لذلك، بفعل قلة الوعي وغياب المصدّات الثقافية الكافية عندهم.. واقعنا اليوم يدعو جميع الفاعلين من رجال دين معتدلين ومثقفين وفنانين واعلاميين إلى التصدي لهذه المهمة الوطنية والانسانية، لأن شعوبنا خرجت من أخطر وأكبر أزمة وصراع دموي في عصرنا الحديث، أو منذ أن تشكّلت دولتنا الحديثة مطلع القرن الماضي، لأننا لم نعرف خلاله صراعا طائفيا بهذه الحدة وبهذه الدموية المرعبة.. وعليه نجد اليوم أن أي خطاب ديني متطرف من اية جهة هو بمثابة الدفع بإعادة شعوبنا إلى تلك الحقبة المرضية، وأن أي مثقف أو فنان ينخرط في لعبة اثارة تلك النعرات ويروّج لها بشكلٍ أو بآخر يعدُّ من الداعين للفرقة وتدمير وحدة الشعوب، وعلينا أن نشير إليهم من دون تردد ونفضحهم، فلا مجال بعد الذي حصل للمجاملة وغض النظر.
ما نشاهده اليوم من بعض الاعمال الفنية ونقرأه للبعض ممن يسمون انفسهم مثقفين ونسمعه من اعلاميين، يمثل محاولة لإعادة شعوبنا التي تعيش نقاهة إلى مرضها، الذي كاد يفتك بها وبالدول التي تمثل حاضنة لها.. فاتقوا الله بهذه الشعوب وانتبهوا أيها المغرضون!