ياسين النصير
بمثل ما نرغب أنْ نكون حداثويين، نجدد سكننا، نطور عملنا، نغير ملابسنا، نعدد خلواتنا الخاصة، نطعم لغتنا، نبحث عن طرائق للقول جديدة، ننوع أساليب عيشنا، نعدد مصادر معارفنا، هكذا تبدأ سنة الحياة حيث التجديد يتطلب رؤية جذرية باحثة، وليس تقليدًا قشريًا يعيش على السطح، لا يقف باص التجديد عند محطة لنترجل منه، بل نبقى في الباص حتى يصلُ ويعودُ ثانية في الطريق نفسها، ففي كل مرة نرى الأشياء فيها ثمة تجديدٌ يطرأ عليها، الحياة رحلة لا تعرف المحطات، فالتجديد يرافقنا في تطورنا الجسدي والمعرفي والفكري، وبدون ذلك، سنبقى سجناء أجسادنا، حتى لو كانت ملابسنا جديدة.
لا يمكنْ أنْ نغير ثوبًا بآخر، ما لم نكن على فهم بالتغيير، فقد نتهم بالمروق والكفر والانحراف. مثل هذه البنية العقلية المضادة للتغيير، لا تزال تُمارس في الكثير من جوانب إنتاح الحياة المعرفية والمادية والعلائقية عندنا، وعليه، نجد شعوبًا تعيش في القرن الواحد والعشرين، وهي مؤمنة بطرائق عيشها، لأنها وجدت نفسها ضمن منطق التطور بما تمتلكه من قدرات التغيير.
لكنها ترى محليتها بعين ذاتها، لا بعين كاميرا أخرى، لا يتم التجديد بالعين الأخرى، فالذات وحدها القادرة على صياغة شروط تحققها.
في الجهة المقابلة، ثمة من يعتقد، إنْ لم يكن يمارس طريقة مناقضة جدًا، للطريقة السابقة، من أنه يركض خلف كل جديد، وينعق مع كل ناعق، فتراه يغير من ملابسه متتبعًا أزياءً أخرى، يرى فيها الآخر فيه، ولا يرى نفسه في الآخر.
فيغير من قصة شعره، مقلدًا فيها لاعبًا أو ممثلًا، ومن نوعية حذائه لأنه شاهده في منظر جميل، وعلى مستوى الثقافة يكتب مثل ما يكتبون، ويفكر مثل ما يفكرون، لتجد أنَّ الحياة عنده مقتصرة على مظاهر نعمها، وتقليد أصواتها العالية، وتلويناتها السريعة، وتبدلاتها الاقتصادية والثقافية، وبالتالي فلا يختلف هذا الراكض خلف الجديد، عن ذلك المقتعد في بيت الجد تلقنه ألسنة الموتى بتعاليم الحياة، يؤمن بالخرافة والسحر والشعوذة، ويستنطق الحجر لمعرفة مستقبله، في حين يرتدي أحدث ما يكون، فالجسد هو المعيار عند البعض لفهم التجديد.
ما المنهج الذي يجمع بين عقليتي الجمود والتجديد؟ لا شك أنَّ مهمة كهذه صعبة عندما نفكر بطريقة مزدوجة، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، أنَّ سكنة الأهوار عندنا، من أجل زيادة محصول صيد الطيور والأسماك، وحصاد الأعلاف، عليهم أنْ ينتقلوا بمشاحيفهم الخشبية إلى أصقاع بعيدة في الأهوار، ولكنهم- كما شاهدت ذلك مرارًا-، أنهم يتأخرون في الليل كي يصلوا صباحاً لبيوتهم، وقد يتيه البعض منهم لتغير سريع في مجاري الماء. اليوم، وبعد أنْ دخلت التكنولوجيا في حياتهم، ولو بشكل بسيط، ربط رجل الأهوارعلى مشحوفه محركًا يعمل بالديزل، فازدات السرعة في التنقل، وتنوعت كشوفات مجاهل الأهوار، واكتشف مكامن الطيور والأسماك، وتغنى بما يرى لأنه وجد ذاته وقد طاولت مساحتها المجهولة.
وبالتالي اختصر الزمن، وازداد توفير الصيد، وتنوع العمل، فأنتج ربحًا مضاعفًا، انعكس على حياته اليومية، اشترى زورقًا جديدًا وحسّن بيته ومعيشته، وأرسل أبناءه للدراسة، وتنقل بين المدن، واستأجر دكانًا، وتطلع للنجوم، وتعرف على الثقافة، وعمل تجمعات لتبادل الخبرات، مثل هذه البنية الاجتماعية/ الاقتصادية، واحدة من طرق تجديد الحياة، من دون أنْ يفتعل التطور، أو أنْ يتخلى عن أمكنة الأهوار ومجاهلها، فما زال الصيد هو عمله.
فالتطور ليس وصفة تشتريها من الصيدلية الثقافية أو الاجتماعية، بل هو بنية كامنة في موجود الحياة اليومية، لا تتطلب إلا رؤية حداثية لاستخراجها من الحكاية إلى القصة، ومن القصة إلى الرواية، ومن الحسجة إلى القصيدة، ومن المداعبة إلى الغزل، ومن حب العمل إلى تخزين المال، ومن القوت اليومي إلى توفير القوت وخزنه، ومن بنية القرية إلى بنية المدينة، من الكوخ القصبي إلى بيت الحجر، ومن الأكل باليد إلى الأكل بالملعقة، هل يركص فلاح الماء وراء التجديد؟ فحين يعي أنَّ حياته تتطلبه، سيبحثُ عنه ليكتشف أنَّ ينبوع التجديد هي الأرض التي تجوسها قدماه، والأشياء التي تراها عيناه، والأصوات التي تسمعها أذناه، هي تذوق الأشياء، وهي الحس بالمدركات، وهي الوعي أنَّ المجرى يغير من ضفتي النهر. التجديد يكمن في أشياء حياتنا، لا في ما نقلده أو نحتذيه، فالحاجة تفرض شرط وجودها.
على مستوى الثقافة والإبداع الأدبي، وهو الميدان المشتبك معرفة ومكانًا وتصورًا وفلسفة يتطلب الأمر معرفة بطرائق الإنتاج وتوفير آلاته وسرعة التنقل، واستثمار القدرات الفكرية واللغوية، ليجد أنَّ الطريق إليه عند قدميه عندما يعيد النظر في مكونات بيته والقدرات المختزنة فيها، لا تنهض أمة إلا بتثوير ممكناتها الشعبية، وإلا لما تحولت القصيدة العمودية إلى القصيدة الحديثة لمجرد أنها ليست رغبة شاعر، إذ تحولت عندما استوعبت الحياة جديدها اللغوي واندماجها في تطور سياق الحياة اليومية، وبرز الهامش والأجزاء كصورٍ ماديَّة مؤثرة، وانبثقت الرؤية التي تستبطن الأشياء لتكشف عن عوالمها الخفية، هنا، ومن “بويب وبيت الجد، وغابة النخيل، وشباك وفيقة، والمومس العمياء، ومنزل الأقنان، وجد السياب مجرى آخر لشعرية الحياة اليومية، ليس هو المجرى الذي كتب فيه قصائده العمودية.
لا يمكن ارتداء أثوابٍ قديمة بحجة التراث، ولا يمكن تتبع الأزياء الحديثة بحجة التجديد والحداثة، فأية نقلة من وإلى تتطلب وعياً، الحداثة هي وعي الممكنات التي
نعيشها. الحداثة هي الطريق الأكثر نجاعة للوقوف في الأمكنة السابقة نفسها، ومن ثم التفكير باستثمار آلية تطويرها التي تنسجم والقدرات المحلية، هذه الحال المعقدة هي بعض مهمات التجديد، إنَّ استعارة الأساليب لا تتم من دون أرضية لزراعتها وآلة حديثة لإنتاجها، وشخصية لتفهمها، وكاتب يعرف مزيج لغتها، ومنتج يتعرف على مكاسب عمله، وقارئ يجد نفسه متصورًا فيها.