عندما يحطم الفكر المتطرّف مصير العائلات

بانوراما 2019/04/17
...

  نبيه بلوص

ترجمة : بهاء سلمان
 
 
 
 
 
 
 
قطع بشيرول شقدر، 38 عاماً، آلاف الأميال من موطنه بالقرب من مدينة ميامي، وقضى اسبوعاً محبطاً في أربيل سعياً للقاء دبلوماسيين أو قادة عسكريين أو رجال ميليشيات أو نشطاء أو عمال إغاثة أو صحفيين أو أي أحد يمكن له مساعدته.
وكانت غرفة الفندق في أربيل هي أقرب مكان حصل عليه بشيرول من طفليه منذ آذار 2015، عندما أخذتهما زوجته، حيث كانت قد غادرت فلوريدا صوب سوريا للالتحاق بصفوف عصابات “داعش” الارهابية. أثناء تلك الفترة، سيطرت العصابات الارهابية على منطقة مترامية الأطراف شملت ثلث كل من العراق وسوريا؛ لتتقلص نفوذ تلك الجماعات الى منطقة صغيرة في الباغوز، القرية السورية المغبرة الباعدة مئتي ميل عن أربيل، والتي انتهت بهزيمة العصابات قبل أن تشهد معارك ضارية لطرد الدواعش منها.
 
حياة هانئة
وفي مكان ما خارجاً، كان هناك يوسف ذو الثماني سنوات وشقيقته زهراء، أربع سنوات. لقد شاهدوا حياة سكان فلوريدا التي بدت لهم نعيماً، فقد عمل بشيرول بقطّاع تقنيات المعلومات، وكانت زوجته رشيدة عبد الحميد ربة بيت، وكانت العائلة تذهب للاستمتاع عند جسر لصيد السمك عند ساحل ميامي الشمالي، يستغرقون أوقاتاً لمشاهدة الأمواج، وصاروا من الزبائن المنتظمين لمطعمهم العربي المفضل.
كلا الزوجين لديهما الجنسية الأميركية من أصل بنغلاديشي، وكانا من المؤدين للفروض الدينية بالتزام تام. وفي 15 آذار 2015، طار بشيرول الى السعودية لأداء العمرة، التي يتمنى أداءها جميع المسلمين. وبمجرّد وصوله، أرسل الزوج لزوجته صوراً ومقاطع فيديو، مع أسئلة حول ماهية الهدايا التي سيجلبها للعائلة؛ لكن لم يكن هناك رد. وبعد تسعة أيام مليئة بالقلق، اتصل بشيرول بوالدي زوجته، ليبلغاه بسفر عائلته الى اسطنبول بعد ثلاث ساعات من رحلته، وكانت معهم شقيقة زوجته؛ عائشة. ويبدو أنهم مضوا في طريقهم من تركيا الى مدينة الرقة، التي كانت حينها مركز دولة “داعش” داخل سوريا.
اتصل بشيرول مباشرة بمكتب التحقيقات الفيدرالي، وهرع عائداً الى ميامي: “كان الأمر بمثابة سقوط كامل السماء عليَّ، فإلى أن أقدمت رشيدة على هذا الفعل، كانت كل شيء بالنسبة لي، وتقاسمت معها كل حياتي.” لم يبدر شيء من عائلته، لغاية مرور شهر، عندما ظهر رقم غريب على هاتفه المحمول، رجل بلكنة بريطانية يسأل عنه، ويخبره بوجود زوجته وأطفاله في “دولة الخلافة الاسلامية”، موبخاً إياه لعدم انضمامه اليهم، وهدده أنه إن لم يفعل ذلك خلال شهر، فسوف يعلن فسخ زواجه ويأخذ أطفاله منه.
 
هول الصدمة
تمهّل بشيرول قليلاً، وقال أنه أراد الذهاب، لكن كان عليه الاهتمام بوالدته المريضة المقيمة معه في منزله. بعد اسبوع، اتصلت به زوجته، مرسلة رسائل على الفايبر: “كان كلانا يبكي، وقلت لها رشيدة، ماذا فعلت لك على امتداد أيام حياتنا لكي تفعلي ذلك بي؟‘“ اعتذرت زوجته، مشيرة لحدوث كل شيء بسرعة فائقة. كان انجذابها لدولة الدواعش شيئاً لم يفهمه بشير اطلاقاً، وقد توسل اليها كي تعود، لكن جواز سفرها كان قد أخذ منها.
استمر الاثنان بالتواصل على مدى أشهر تلت، لكن بشير لم يشعر مطلقاً بتمكنه من التحدث بحرية معها، فقد كان يعرف بوجود الدواعش جوارها: “كان الحال صعباً للغاية. أحياناً عندما كنا نتحدث، أردت أن أعبر عن غضبي، كزوج وأب لأطفال يعشقهم ... أردت ابلاغها بالعودة، لكنني لم أتمكن من قول ذلك.”
بعد ما يقارب من سنة ونصف، لم يعد الارهابيون مقتنعين باخلاص بشيرول لهم، فتقدمت زوجته في حزيران 2016 بطلب ابطال زواجها منه، وفق القضية رقم 13020 بمحكمة الرقة الشرعية باسمها الجهادي “أم يوسف الأميركية”، وكانت حجتها لطلب إبطال الزواج، أن زوجها يقيم في دولة الكفّار، ولا يريد الهجرة اليها،” بحسب وثيقة صادرة من المحكمة، والتي حصل عليها بشيرول لاحقاً. تزوّجت رشيدة مرة أخرى وبسرعة سنة 2017، وولدت بنتاً أسمتها صفية. أثناء تلك الفترة، كان الدواعش يخسرون المناطق التي سبق لهم السيطرة عليها بشكل مطّرد، لتتراجع مع أطفالها الثلاثة في نهاية المطاف مع الارهابيين صوب شرق سوريا، وكان هذا ما بلغه من عائشة برسالة عبر الانترنت. 
 
أحداث متلاحقة
بعد ذلك، ومع بداية هذا العام، أرسلت عائشة رسالة أخرى: رشيدة قتلت أثر قصف جوي، وتعرّض يوسف وزهراء للأذى. وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية، تدفقت آلاف العوائل من الباغوز هرباً من المعارك، فظهرت بارزة كالخيال من الصحراء، هزيلة ومغطاة بالغبار، لترحل الى مخيّمات احتجاز كردية تبعد مئات الأميال.
لم يتمكن الكثير من الأطفال اكمال الرحلة، ومنذ كانون الأول الماضي، بحسب تقارير الأمم المتحدة، مات أكثر من خمسين طفلاً تقل أعمارهم عن خمس سنوات، أو بعد وصولهم الى مخيّم الهول بوقت قصير، وهو مخيّم يؤوي أكثر من خمسين ألف فرد. وتم نقل مئات غيرهم الى المستشفيات لاصابتهم بسوء التغذية الحاد والاسهال. 
واتصل بشيرول بالقنصلية الأميركية في أربيل، ووصل الى مكتب السيناتور ماركو روبيو، النائب عن فلوريدا، طالباً المساعدة للعبور الى سوريا للبحث عن أطفاله: “قالوا لي بعدم أمان الطريق، لكنني قلت أن الدواعش يندحرون، فماذا يعني عدم تمكنّي من البحث عن أطفالي؟” وقبل عدة أيام، اعتقد بشيرول أن كابوسه انتهى أخيراً، فقد أخبرته احدى مجاميع الاغاثة بالعثور على يوسف وزهراء، ليهرع الى مراكز التسوّق داخل أربيل ويشتري ملابس شتوية، لكن سرعان ما اكتشف وجود خلط في الأسماء.
ومع تواصل معارك الباغوز الأخيرة، جاء بشير اتصال من أحد المسلحين الذين كانوا يقاتلون الى جانب الدواعش، ليخبره بوجود طفليه معهم. فأرسل الأب رسائل مطالباً باطلاق سراح طفليه وجميع الأطفال المتبقين، لكن لا رد يذكر مع انقطاع الإتصال مع مسلحين مهزومين: “كل ما أقوم به هو مشاهدة التلفزيون ورؤية كل هؤلاء الناس والأطفال المصحوبين مع والديهم، لكن طفليّ لا أم لهم ولا أب.”
لم يكن بوسعه فعل شيء من أربيل، ليغادر مؤخراً عائداً بالطائرة الى ميامي.