يلتقي وزراء خارجية دول الناتو في واشنطن للاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس أكثر التحالفات العسكرية نجاحاً في التاريخ، وبدلاً من أن تكون مناسبة سعيدة، فهي مراسم مشحونة بالقلق ونذير للمستقبل. فالعالم يشهد عودة تنافس القوى الكبرى والتراجع التدريجي للقوة الاقتصادية للولايات المتحدة وحلفائها الأساسيين. وشجّع صعود الشعبوية في الغرب الأحزاب على ازدراء الناتو علانية، كما هو حال حزب رابطة الشمال الايطالي والجبهة الشعبية الفرنسية، اضافة الى الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لم يواجه الحلف طيلة تاريخه مثل هذه الكراهية المركزة من قبل الزعيم الاسمي له، كما يفعل الرئيس ترامب، اذ تجاوز ممارسات سلفه بالقاء خطب على الحلفاء الأوروبيين بسبب تنصلهم من مسؤولياتهم وبلغ به الأمر حد التساؤل عن الهدف الحقيقي لسياسة الحلف وتطرق الى تخريب مبدئه الأساسي.
تماشى هذا التعمد مع رأي ترامب الثابت بأن الناتو “قديم” وان الحلفاء يستغلون السخاء الأميركي. مع ذلك، أراد المدافعون عن ترامب طرح رأي قبل القمة بأن الرئيس الأميركي لم يقل أو يفعل شيئاً خلال فترة رئاسته يهدد الوحدة عبر الأطلسي أو قوة الردع التي يعتمد عليها الحلف.
غير إن ذلك الموقف يتعذر تطبيقه، فللمرة الأولى في تاريخ الحلف يبقى زعيمه الفعلي صامتاً بشأن التصدي لهجوم مسلح على أي بلد عضو. ورفض ترامب القول اذا كانت بلاده ستحترم التزاماتها مع الحلف تجاه الدول الصغرى الخاضعة للنفوذ الروسي.
لم يلتزم أعضاء الناتو بالأدبيات الدبلوماسية في التعبير عن قلقهم، فضلاً عن أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هي المثال الأبرز عندما أعلنت خلال خطاب شهير بعد قمة 2017 أن منصب زعيم العالم الحر كان شاغراً، وبالتالي من الآن فصاعداً وللمرة الأولى منذ عدة أجيال، فإن على هذا العالم الاعتناء بمصالحه بنفسه.
بدلاً من محاولة ترميم هذا الضرر الذي ألحقه بالحلف، ضاعف الرئيس الأميركي من جهوده لأجل تفكيك الحلف. وتساءل ترامب علانية عن مدى أهمية المخاطرة بحياة جندي أميركي واحد دفاعاً عن دول معينة من الحلف، مثل الجبل الأسود، ويقال أنه يفكر بالانسحاب كلياً من حلف الناتو.
انقسام جمهوري
لا يقتصر الأذى الناتج عن هذا الموقف على تحفيز شهية الروس تجاه جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، بل أفسد الرأي السائد بين أعضاء الحزب الجمهوري الذي تمتع قبل فترة ليست بالطويلة بتميزه لأنه ملتزم بسياسة دفاعية وطنية قوية واهتمامه بحلفاء أميركا وصرامته تجاه أعداء الحرية.
أظهر استطلاع رأي حديث أن نسبة الجمهوريين الراغبين بالانسحاب من الناتو ازدادت أكثر من الضعف منذ 2016، أي من 17 بالمئة الى 38 بالمئة. لا يرى بعض المراقبين سبباً للخوف من التحول الذي جلبه ترامب، ففي صحيفة نيويورك تايمز دعا البروفيسور باري بوسن الى اغلاق الناتو طالما أنه بقي في العمل بعد الحرب الباردة لأن لديه “ماركة جيدة” يمكن وضعها بخدمة “العمل الاجتماعي الدولي”.
يؤكد بوسن أن “الأوروبيين بمقدورهم الدفاع عن أنفسهم”، ويبقى لغزاً كيفية توصله الى هذا الحكم إذا أخذنا بعين الاعتبار استشهاده بمجموعة من الأسباب التي تجعل الدفاعات الأوروبية ضعيفة، ويرى أن حفاظ أميركا على سيادة أعضاء الناتو الجدد المجاورين لروسيا “مهمة صعبة”.
خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية لم يكن التهديد السوفيتي الناشئ هو من صاغ القدرات السياسية الأميركية وأنجب الناتو، وإنما انحسار صدمة عدوان دول المحور. ازداد فهم زعماء أميركا بعد الحرب لأوهام “العزلة الرائعة” بسبب اخفاقات ميونيخ ونزيف دم بيرل هاربر. والنتيجة هي تصميمهم على تجنب الخطأ الذي ارتكبته بلادهم إثر الحرب العالمية الأولى عندما تخلت عن أوروبا وأي أمل بعالم متجانس مع مصالح ومبادئ أميركا.
ولد الناتو بدافع المصلحة الذاتية، وكما قال اللورد إيسماي (أول أمين عام لحلف الناتو) كان الغرض منه “ابقاء السوفييت خارجاً والأميركيين في الداخل والألمان مهزومين.” عمل هذا الترتيب أفضل مما كان متخيلاً، ولم يكتف بإنهاء الامبراطورية السوفيتية ولكنه أطلق اندماج أوروبا وإنضمام ألمانيا للقارة أيضاً.
من غير الواضح أن أياً من تلك المنجزات التاريخية كان سيتحقق من دون تواجد الجنود الأميركيين في ألمانيا. اعتاد الجمهوريون على فهم ذلك، وعرض دوايت آيزنهاور مطلع العام 1951 اتفاقاً على منافسه الحزبي: اذا أيد السيناتور تافت التحالف الأطلسي فحينئذ سيوقف آيزنهاور ترشيحه. لكن تافت رفض المقترح ما دفع القائد المشهور الى دخول السباق وطرحه الدفاع الجماعي العابر للأطلسي كميزة بديهية لسياسة الحزب الجمهوري الخارجية.