تحويل اقتصاد العراق إلى نظم السوق .. النظرية والتطبيق

اقتصادية 2019/04/18
...

 
 
د. محمد رياض حمزة
 
 
لم يكن التحول من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق  يسيرا على روسيا ودول شرق اوربا قبل عام 1991 وبعده. إذ لا تزال مظاهر تلك الحقبة قائمة على رغم مرور أكثر من ربع قرن على انهيار الأنظمة الاشتراكية في تلك البلدان. رغم ان مجتمعات تلك البلدان تتمتع بالاستقرار ونضج الوعي السياسي الذي كان مهيئا لتفهم التغيير وتبنيه. ذلك فضلا عن تكامل البنى التحتية 
لاقتصاداتها. 
بمعنى توفر معظم مقومات التحول الى اقتصاد السوق في تلك الدول. وحتى الآن لم تنجز بعد التحوّل لاقتصاد 
السوق.
ورث العراق من عهد حكم صدام ــ البعث اقتصادا منهارا ليس فقط بسبب الحصار الذي دام 13عاما، وإنما بسبب توجه ذلك النظام لإنفاق معظم الدخل القومي على التسليح ومن ثمَّ “حماقة” شنّ حربين. ثمّ أنّ الاقتصاد العراقي لم يكن اشتراكيا بالمعنى العملي للنظام الاشتراكي . فخلال 35 عاما من حكم البعث لم يكن يُعلن عن موارد العراق المالية السنوية (الدخل القومي) أو قيمة الناتج المحلي الأجمالي أو “الموازنة المالية السنوية” للانفاق
 العام . 
ولا وجود حقيقيا للقطاع الخاص في الانشطة الانتاجية والخدمية الاساسية الا بقدر خدمة النظام، وما كان “يتكرّم” به على البعض لكسب 
الولاء. 
وتواصل إنهاك الاقتصاد العراقي بعد 2003 بسبب الإرهاب الذي أدى إلى التخبّط في ادارة المال العام وهدره فضلا عن تواصل انتشار الفساد كما أقرّ بذلك كل من رؤساء الوزراء ( المالكي والعبادي وعبد المهدي). 
فاقتصاد العراق بعد 2003 ورث تركة ثقيلة من المديونية لمعظم دول العالم. كما لم تكن البنية التحتية لقطاع النفط بأفضل من بنى الاقتصاد الاخرى. فواقع الاقتصاد العراقي اليوم وبعد 16 سنة يحتاج إلى جهد مضاعف لاستدامة النمو. 
فالاقتصاد الوطني الذي أُنهكته الحرب على الارهاب تطلب إنفاقا كان يقتطع أكثر من 70 بالمئة من الموارد المالية السنوية من صادرات النفط الخام بين 2003 و2017. ذلك واقع غير يسير على التحوّل لاقتصاد السوق.
ليس حبّا بالتشاؤم بوصف الواقع بسلبياته لتعطيل العمل الآني والمستقبلي لارساء بنية تحتية لاقتصاد عراقي قوي مستدام 
النمو. 
العراق بموارده الطبيعية والبشرية مُهيّأُ لاستيعاب مئة مليون إنسان برفاهية أوروبية إنْ (أداة الشرط الجازمة) أُدير سياسيا واقتصاديا  على أسس الخبرة والنزاهة والولاء للوطن قبل أي ولاء ... فتحويل الاقتصاد لنظام السوق من واقع سياسي واقتصادي تعترضه تحديات جوهرية، هذا التحوّل يحتاج إلى الخبرات التشريعية والتنفيذية لترميم البنى التحتية للانشطة الزراعية والصناعية والمالية وعلاقات التبادل التجاري. فضلا عن استتباب ناجز للأمن يشمل محافظات العراق كلها. لجذب الاستثمارات الوطنية 
والاجنبية.
في تقرير للبنك الدولي نشر في  مطلع شهر نيسان 2019 بعنوان (العراق: الآفاق الاقتصادية) ملخصه: “يتحسّن الاقتصاد العراقي تدريجيا بعد الضغوط الاقتصادية الشديدة التي شهدتها السنوات الأربع 
الماضية. 
ويقدر نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 0.6 بالمئة عام 2018، وذلك بفضل التحسّن الملحوظ في الأوضاع الأمنية وارتفاع أسعار النفط، مما عكس اتجاه الانكماش الذي بلغ 1.7 بالمئة عام 2017. وشهد الاقتصاد غير النفطي ارتفاعاً سريعاً إذ سجّل معدّل نمو بلغ 4 بالمئة، بينما انخفض إنتاج النفط قليلا عمّا كان عليه عام 2017 تماشيا مع اتفاق 
أوبك.
ومؤخرا، تلقى الاقتصاد العراقي دفعة من الثقة بتوقيع عدة اتفاقيات تجارية مع دول الجوار. وتمضي جهود إعادة الإعمار بوتيرة معتدلة. وظل معدل التضخم منخفضا عند 0.4 بالمئة عام 2018، ولكنه ارتفع قليلاً عما كان عليه عام 2017، بسبب ارتفاع الطلب المحلي فضلا عن ارتفاع تكاليف الغذاء والنقل. وتحسّنت التوقعات الاقتصادية بسبب ارتفاع أسعار النفط وتحسّن الوضع الأمني . ولكن القيود على الإنفاق الرأسمالي ستعوّق تسارع النمو المدفوع بالانتعاش.
 فمن المتوقع أن يرتفع النمو إلى 8.1 بالمئة عام 2020 ويرجع ذلك بشكل رئيس إلى ارتفاع إنتاج النفط وتصديره. ومن المتوقع أن يظل النمو غير النفطي إيجابيا على خلفية ارتفاع الاستثمارات اللازمة لإعادة بناء شبكة البنية التحتية والاستهلاك الخاص 
والاستثمار.
ومع ذلك، فإنّ موازنة 2019 التي تمت الموافقة عليها مؤخرا تمثل زيادة كبيرة في الإنفاق المتكرر، وما لم تكن هناك إعادة توجيه كبيرة في سياسة المالية العامة لنهج الانتعاش الشامل، فستكون هناك مساحة محدودة في المالية العامة لدعم الانتعاش بعد الحرب والتنمية الطويلة الأجل. 
وسيؤدي ارتفاع الإنفاق مع انخفاض أسعار النفط إلى ارتفاع عجز الموازنة المتوقع بنسبة 5.4 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي عام 2019 قبل تقليصه إلى نحو 3 بالمئة خلال الفترة 2020-2021. كما أن انخفاض أسعار النفط وزيادة الواردات سيؤديان إلى تحويل رصيد المعاملات الجارية إلى عجز، يتم تمويله جزئيا من الاحتياطيات الدولية” (انتهى ملخص تقرير البنك 
الدولي).
أما البنك الدولي فتناول تقريره في  9 تشرين الثاني 2018 استشراف المستقبل بالتوقع أن يحافظ اقتصاد العراق على معدل للنمو السنوي يبلغ 2.2 بالمئة خلال السنوات الخمس المقبلة وحتى   عام 2023. 
وأوضح تقرير الصندوق (حول آفاق النمو الاقتصادي العالمي)، أن معدل النمو بالناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للاقتصاد العراقي بنهاية العام الحالي من المتوقع أن يصل إلى 1.5 بالمئة. 
كما رجّح أن يصل معدل النمو الاقتصادي إلى 6.5 بالمئة في 2019. فيما رجّح استقرار معدل التضخم بالدولة عند 2.2 بالمئة في العام الحالي والعام المقبل. فتوقعات الصندوق والبنك الدوليين متقاربة ويمكن اعتمادها للتخطيط المستقبلي.
يُخطئ منظرو الرأسمالية المحدثون تصورهم إمكانية التحوّل من الاقتصادات الهامشية الضعيفة في دول “العالم الثالث”.  الى “اقتصاد السوق الرأسمالي” بتطبيق قوانين السوق المطبقة في النظم الرأسمالية في الدول الصناعية المتقدمة. 
ولعل اقتصادات الدول العربية المصدرة للنفط مثال لتلك الدول التي تهيمن حكوماتها على معظم إنتاج السلع والخدمات بالاعتماد على الموارد المالية من صادرات النفط كمصدر اساس لتمويل الإنفاق
 العام. 
بمعنى: لايمكن ان نجد ذات الاسس التي يمكن تحويلها من نظم شبه شمولية الى نظم السوق بين يوم وليلة. ولعل اقتصاد العراق أنموذجا لواقع ومكونات لفرزتها ظروف حقبة من عدم الاستقرار السياسي 
والاقتصادي.
كتبت عشرات المقالات التي تناولت تطوير الاقتصاد العراقي بعد 2003 وجاء معظمها مستعرضا المعوقات التي تجعل من تطويره تحديا كبيرا للحكومة. وليس تكرارا أو إعادة لوصف واقع الاقتصاد العراقي ولكن النقد البنّاء يجب ان يصل إلى صنّاع القرار في السلطات التشريعية والتنفيذية 
والقضائية. 
فتحديات الاقتصاد العراقي تم تشخيصها ويفترض ان تكون الحكومة على بينة منها. والذي يجب تأكيده هو أن مجابهة تلك التحديات تحتاج إلى الخبرات المتخصصة في قطاعات الاقتصاد كافة لدى صنع القرار في السلطات الثلاث.
فالعراق في المرحلة الآنيّة يحتاج حكومة خبرات وهي السبيل لإنجاز التقدم وإدارة موارد البلاد على أسس المعرفة والولاء الخالص للعراق. 
وأخالف رأي من يقول “إنّ الوزارات هي مناصب سياسية، لا تتطلب الخبرة والتخصص في صلب عمل الوزارة” بل هي كذلك، فالوزير غير المتخصص في شؤون وزارته وليست لديه الخبرة في إدارتها يمكن أن يمرر عليه الكثير من التلاعب المغرض ممن حوله من موظفيه الفاسدين، كذلك وكيل الوزارة والمدير العام ورئيس الهيئة أو 
المؤسسة.  
في دراسة موجزة نشرت في موقع “شبكة النبأ المعلوماتية في 27 حزيران 2018  للكدتور صادق حسين الركابي (خبير اقتصادي “لندن”) شملت واقع الاقتصاد العراقي وممكنات تطويره من خلال تكامل القطاعات الاقتصادية وتطوير البيئة القانونية ومشاركة القطاع الخاص وتطبيق رؤية جديدة للقطاع النفطي والموارد الطبيعية بمجلس، وتطوير العمل في قطاعات الزراعة والصناعة والنقل والاتصالات والسياحة والإعمار والمصارف والقطاعات الانتاجية والخدمية الأخرى، وتفعيل النشاط المصرفي والاستثماري، واستحداث نظام ضريبي واقعي في إطار نظم رقابية نزيهة وصارمة. وتعديل السياسة النقدية بإشراف البنك المركزي لتحقيق سياسة نقدية منسجمة مع خطط التنمية وتنظيم سوق بيع العملات وتعزيز دور البنك المركزي في الرقابة على عمل المصارف واستثمار الاحتياطي النقدي بما يتلاءم مع المتغيرات الدولية. شملت الدراسة مقترحات قيّمة لتطوير الاقتصاد العراقي.                                  
 الفقرة التالية اجدها ضرورية للتذكير بما أبتليت به الدكتاتوريات والنظم الشمولية. أُوردها ليأخذ المقال صيغة متكامة وصولا
 لهدفه.
 فقد كانت احد أهم اسباب انهيار نظم الحكم “الدكتاتورية ــ الشمولية” هو الكذب على الذات وتصوير الواقع بما هو ليس عليه. فكان اعلام تلك الدول مسيّساً تسيطر عليه أجهزة امن النظم ومخابراتها، فيستخدم للتهويل وعكس حقيقة الواقع الاقتصادي المحلي 
المتردي.
 ويُكتمُ من يرفع صوته ناقدا أما أن يُقتل أو يودع أقبية السجون. ولعل حكم صدام ــ البعث. وحكم مبارك ــ مصر ونظم حكم عربية أخرى برهان على ذلك. لذا فمن بين أهم ممكنات التطوير هو سماع النقد البنّاء وليس المغرض.