حمزة الحلفي

الصفحة الاخيرة 2023/04/16
...

محمد غازي الاخرس
لا أتذكر متى بالضبط تعرفت عليه شخصياً، لكن الأمر جرى أيام عملي في جريدة الصباح، عام 2004 أو بعد ذلك. 

حمزة الحلفي الشاعر الذي رأيته وجهاً لوجه للمرة الأولى بداية التسعينيات، يوم أبهرني في منتدى الأدباء الشباب بمنطقة الطالبية. 

كان قد حلّ ضيفاً في أمسية مشتركة برفقة شريكه حسن بريسم.

في تلك الفترة، شاع نوع جديد من الحفلات يشترك فيه شاعر شعبي ومطرب لتقديم وصلة يترادف فيها الغناء والشعر.

كان صاحبي الشجي، قد توعد الدنيا ذات يوم وقال لها: "بسيطة تهون وأرتاح، وأشوفج ياهو الطاح، صحيح التعب ماخذني، صحيح الشالني ذبني، بس تبقى السما للشايل جناح". 

غناها عبد فلك لتصبح (ترند) ذلك الزمن، زمن المتاعب والفقر.  

تهدد الحلفي الدنيا بتلك الأغنية، لكن في الأخير جرى العكس فأرته الدنيا، فنفذت الدنيا تهديدها الخفي لأمثاله ففجعته بولده الحسن في حادث أثار الرأي العام مؤخراً. 

لا أرغب بنكأ جراح من فقد ابناً وما أكثرهم في العراق، لكنني حين عانقت حمزة إنما عانقت أبي، في الأيام الأخيرة من حرب إيران، عام 1988، استشهد أخي. فذهبت أنا وصلاح الكردي جارنا، ونسيبي كاظم إلى الجبهة لنعرف الخبر. 

عدنا عصراً، وما إن وصلنا، حتى فتحت باب البيت فوجدتهم بانتظاري، وقفت وشققت قميصي وصحت - نظوري مفقود- فتعالى الصياح. 

نظرت إلى الطارمة، فإذا بأبي واقف ينتظر بدشداشة وبيده سيجارة، وما إن صرخت بالخبر حتى رمى السيجارة من يده ولطم على جبينه. 

لن أنسى وجهه المعتم وشعره الأبيض، لن أنسى انكساره العجيب، وخلال أشهر بعدها، كان ينوح في الليل مخبئاً وجهه في الوسادة، ساداً عليه الباب كي لا يزعجنا. ينوح لساعات، لا يتعب، لا يمل، لا يهدأ حتى ينام في ساعة متأخرة. في صباح اليوم التالي، يعتذر لنا عن بكائه ويتوسل بنا أن نسامحه على إزعاجه لنا. وحين يأتي الليل يعود للنواح كذئب جريح. من انكسار أبي عرفت معنى فقدان الابن، وتفهمت ما قاله الشعراء وناح به المغنون عن فقد الأولاد. تفهمت فيما بعد ما قاله لي المطرب الراحل عبد الزهرة مناتي حين سألته عام 2005 عن سبب اعتزاله الغناء مبكراً، وعلاقة ذلك باستشهاد ولده خالد عام 1983. حينها قال عبارة لا تزال ترن في رأسي، قال إنه فقد "الواهس بالغناء"، ثم استدرك: "ما كدرت أغني بعد، لمن كنت أغني كنت أطرب على روحي، هسه ماكو". دمعت عيناي حينئذ، وعرفت معنى انطفاء الضوء في الروح، وهو تماماً ما لمحته في صديقي حمزة الحلفي في مأتم ابنه. نعم، هذا ما يفعله فقد الأبناء بالآباء، جنبكم الله الفجائع وضربات الدهر.