الجنّة

ثقافة 2023/04/17
...

 لؤي حمزة عبّاس


كلما استعاد صورة جدّه تتداخل في ذهنه الأصوات، أصوات غريبة متقاطعة، موسيقى بعيدة ووشوشات، إنه أشهر مصلحي الراديو في المعقل، بدكانه شبه المعتم، المطلّ على النهر. 

كان يواصل الرحلة معه صباح كلِّ يوم من البيت إلى الدكان، مروراً بمقهى الحاج وجسر الخشب العتيق، من فتحات ألواحه يرى الماء خفيف الزرقة، متدفقاً. 

يجلس على الدكة الإسمنت تحت شجرة البمبر العالية، منتظراً النداء ليرفع جهازاً عن المنضدة المزدحمة، أو يناول مفكاً دقيقاً، أو لفّة أسلاك نحاس رفيعة عارية. كان الجد يعرف مكان كلِّ شيء في دكانه الشبيه بسوق الهرج، يكفي أن يدسَّ يده تحت كومة من بقايا الأجهزة ليسحب ما يريد، ماكنة لحام رفيعة مثل قلم الحبر، أو نابضاً دقيقاً معوّجاً، كانت يده تُبصر الأشياء. 

في ظهيرات الصيف يسمع الصبي شخير جده بين ضربات المروحة بعد الغداء مباشرة، وفور انقطاع الشخير يعرف أنه عاد إلى العمل بفانيلته القطنية مأكولة الحواف. 

عند الخامسة عصراً، قبلها بقليل أو بعدها بقليل، يعود بجدّه إلى المنزل، اليد التي تُبصر الأشياء تحطّ مثل طائر على كتفه، تكون لها في تلك الساعة رائحة برادة حديد وملمس أسلاك نحاس. يتقدم جدّه بخطوة أو خطوتين، يعبران جسر الخشب، مازال ماؤه متدفقاً وقد تغيّرت زرقته، إنه الآن أكثر كثافة، يراه من بين الفتحات ويفكّر بالماء الذي يتحول حبراً في الليل. 

يتوقفان قليلاً في المقهى، يُسلّم الجد على بعض الجلوس، يحييهم بأسمائهم ويسأل عن الأحوال، ومع استكان الشاي يبدأ بمناقرة الحاج، يسأله عن راديو المقهى وما يأتي به من أخبار، من مكانه خلف منضدة المعدن يردُّ الحاج بأن كلَّ شيء على حاله إلا الراديو، ثم يرفع صوته ويقول:

ـ منذ أصلحته يا أخي وهو لا يبثُّ غير أخبار الحروب، كأنه راديو وزارة الدفاع!

بعد عودتهما إلى المنزل بوقت قصير يغيب الجد في غرفته التي تضجُّ بأجهزة الراديو هي الأخرى، على المنضدة الصغيرة جوار السرير، أسفل الشُبّاك، وعلى دولاب الملابس، أجهزة من كلِّ شكل ونوع، يشغّلها جميعاً ويستلقي على سريره، أصوات غريبة تتقاطع من حوله، وموسيقى بعيدة ووشوشات، تمتليء بها الغرفة وتفيض، إنها الجنّة التي يعود إليها بعد رحلة كلِّ يوم.