الأجل حارس

ثقافة 2023/04/17
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب 

تفتقر مكتبتنا المسرحيَّة للعروض الطقسيَّة/ الدينيَّة منذ المنع الذي حاقها في العقود الماضية فترة النظام الشمولي وصولا إلى أشكال تقديمها التعزوي (التشابيه) التي اضطلع بها الوعي الشعبي بفطرته وتلقائيته الفنية، إلى أن انفتحنا على عروض خرجت من مشاغل اكاديمية رصينة ومنها عرض (الأجل حارس) لمؤلفه حميد صابر ومخرجه سنان العزاوي والذي عرض على حدائق كلية الفنون الجميلة ببغداد.

 العرض الذي يحكي لحظات ما بعد استشهاد الامام علي بن ابي طالب (ع) في قلق واضطراب خادمه وحارسه (قنبر) الذي يلوم نفسه ويقرعها على تركه امامه يسير وحده لصلاة الفجر ليُغتال غيلة من قبل عبد الرحمن بن ملجم هذا الشعور بالذنب الذي لم يفارق قنبر لحظة واحدة استلهمه المؤلف الحاذق في بناء نصه الدرامي الذي اعتمد قلق بطله التراجيدي في بناء حبكته الدائرية التي تحذر في ثيمتها من ولادة ابن ملجم اخر جديد يئد كل نسغ ايماني يؤمن بالعدل والاحسان والمساواة وفعل الخير وبسؤال وجودي (ذاتي) اطلقه على لسان كاتبه المعاصر الذي يبحث هو الاخر في طيات كتبه وينبش عن مقولات علي (ع) وأسراره وزينب التي تنعى اباها في ذلك الفجر البهيم وشاعر شعبي ومدرس تاريخ لا يعوزه قول الحقيقة ومنشد تعزوي وجوقة بشرية كأنها تنويع تراجيدي للجوقة الاغريقية في انشادها وغنائيتها، في القراءة الاخراجية للمخرج سنان العزاوي نلحظ أفقا فكريا وجماليا جديدا يتعالق مع مفهوم تاريخانية الإرهاب حيث الربط الذكي بين ىشخصية عبد الرحمن بن ملجم ومقولات (الخوارج) وبين مقولات معاصرة للدواعش خوارج العصر الجدد تعيد انتاج تراث الخوارج في تقويضهم للتأويل القرآني وبقائهم ضمن نسق قبلي وابادتهم لمن لم يكونوا معهم في نفس قاربهم الايديولوجي (الفكري) وعدم قبولهم الاخر المختلف والاعتراف به في ضوء محاكمة ابن ملجم وكأنّه داعشي معتقل في أحد السجون الحديثة لتتجسد تلك المحاكمة بوسيط سينمائي فديوي بين بشاعة وفظاظة أطروحات ابن ملجم وهيأته التي بدت متضخمة مشوهة ازاء الشخصيات الاخرى في فضاء العرض. الوسيط السينمائي الذي تحول الى لوحة بيضاء هائلة نثرت عليها حروف اللغة العربية التي التئمت فيما بعد مشكلة مقولات الامام الشهيد: (الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق) و (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه) و (قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان)، في تصور ما بعد حداثي للصورة الوسائطية عمقت من المحتوى المعرفي والفكري للواقعة التاريخية، فلم يذهب المخرج لطرح مرثية نادبة مستكينة للامام الشهيد انما عمل على ابراز القيم الإنسانية النبيلة في سيرته الدنيوية واشراقات حكمته ومآثره الاخلاقيَّة الثرة، لتتمركز اهمية العرض البصرية وقيمته الجمالية في ضوء ابداعية الانشاء في الفضاء المفتوح بانساق حركية متغيرة ومتنوعة تشكلت مساربها من خلال تعدد بؤري عمودي كأننا امام منبر عملاق في مسجد تحيطه ألسنة النار والرايات العربية بالاسود والاخضر والاحمر التي مثلت حقبا اسلامية متنوعة في سيميائيتها وعلاماتها مشكلة اطار الصورة المشهدي. الجميع يجمعهم مأتم كبير، الكل مكلل بالسواد لتسود في لحظات حركات اللطم المثيولوجية الغائرة في جسد تاريخي موشوم بالاسى والحزن لكنه جسد متوثب مرفوع الراس يقظ لا يريد انتاج ابن ملجم جديد فتوثب الحارس قنبر هو توثب من أجل عدم تكرار تلك اللحظة التاريخية بعودها الابدي وغفلتها التي أطاحت بإمام عصرها ومثل الخير والحق.. أن الأجل حارس حقا فلكل أجل كتاب ومواقيت (فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون) ولا خوف من الموت ولا مناص منه، فمهما يحاول قنبر أن يذود عن إمامه ويحميه يرجعه طيف الإمام الى مكانه الاول وهيأته الاولى .. فالاجل حارس لا ينام ولا يغفل، لينفتح المعنى بنسقه التأويلي على معانٍ لا تنتهي ولا تفنى، في التباري الأدائي لفن التمثيل في عرض (الاجل حارس) جنبة واسعة من الابداع والاشراق لانتاج نسق ملحمي غنائي مؤثر ومحكم ذهب بالصوت والجسد الى أقصى مديات التألق الجمعي وبتوافر اداءات تمثيلية فردية تكرّست لدى عواطف السلمان في أدائها لصوت المرأة المحتج الثوري والغاضب فكانت رمزا جامعا لكل نساء بلادنا في لطم الباطل اينما ذر قرنه وكشفها للواعج النفس البشرية وارهاصاتها بصدق فني وتفاعل وجداني داخلي قل نظيره، والممثل والاكاديمي جبار خمّاط الذي اضطلع بدور أستاذ التاريخ وهو ينوء بحمل المعرفة (الكتب) وميراثها الثقيل وما دسَّ في مضانها من تدليس وتزوير فمن واجبه المهني التنويري ارشاد طلبته نحو الحقيقة وضوئها الباهر فكان بحق صوتا عاليا متجردا كالسيف في تجسيد الشخصية بصوت واضح وجسد مرن وحضور لافت.  وكان للممثل علي نجم الدين صولة نادرة في قلقه وخوفه من ان لا يغفل مرة اخرى ففي بحثه عن آثار إمامه، جسَّد بإخلاص صوتا جمعيا لجميع الصادقين الخائفين على الحقيقة والمدافعين عنها جاء اداؤه الحركي واسعا وحارا على مستوى التجسيد الصوتي، ولا يقل الممثلون مرتضى شهاب في ادائه لدور طالب العلم الباحث عن المعرفة في انصهاره الحركي التلقائي مع معلمه على الرغم من جلوسه فترة طويلة تحت المطر، والممثل عباس عبد الحسن دور الشاعر جاء حضوره كارزميا عميقا في الفضاء العاري مخلفا بقصائده اثرا وجدانيا شعبيا طاغيا وكذا سحر الصوت الانشادي ممثلا بالرادود جبار الحريشاوي، الذي مثل قيمة عاطفية وانفعالية في العرض خالقا لتواصلية اكيدة ما بين العرض والجمهور من خلال الصولوات الشجية التي شنفت اسماعنا اثناء العرض والنسق الضوئي البسيط والمعبر للمصمم عباس قاسم خصوصا في لحظة تجسيد طيف الإمام وحواره مع قنبر كانت لحظة مؤثرة وخالدة، والتنفيذ الفديوي الدقيق للمصمم جاسم كوجي للوسيط السينمائي وسيطرته على الفضاء التقني للعرض بصورة مائزة.