فرصة ثقافيَّة لمنهج الدولة في الإسكان

ثقافة 2023/04/17
...

 ياسين طه حافظ

سيبدو الأمر غريباً: أديب يكتب في صفحة ثقافية ومقاله لا في الأدب ولا في الثقافة الفنية. لكني مستأذناً منكم ومما اعتدنا عليه، أكتب في مسألة تخص «سكن الفقراء»، مؤكداً على عاقبة طرد الفقراء من المدن وأحذر الدولة من عواقب التشتيت والتهجير: عفوكم فأنا غير مطمئن وحذر جداً مما يجري! وابدأ بسؤال: هل نبارك هذه الظاهرة؟ ظاهرة العمران الجديد المتزايد؟ نعم، لأننا ناس خيرّون يفرحون بالتجديد ويريدون التطور، ولسنا أبداً ضد تحول الأحياء القديمة إلى عمارات ومولات ومكاتب وشركات. لكن ما يكسر الفرحة ويشوب الرضا هو ما وراء هذا التحول العمراني ونحن نشهد عديد العمارات متعددة الطوابق.

هذه أقامها متمولون، أصحاب رساميل اختلفت مصادرها، إرثاً، «توفيقاً من الله».. الخ. المهم كثرة المنشآت وتسارع نهوضها في مناطق كانت بيوت كسبة ومتوسطي حال من أواخر درجات الطبقة الوسطى، وفقراء اصحاب محلات صغيرة ومتقاعدين ومعلمين.. الخ. خدمتهم الصدف فوقعت دورهم على شوارع رئيسة، تجارية، بمصطلح اليوم. نسبة كبيرة من هؤلاء يبيعون دورهم ليكتفوا بمنازل أبعد أو في الاطراف وليعيشوا بفارق المبلغَيْن- البيوت الباقية على الشوارع الرئيسة التجارية كما تسمى، يطرقون عليهم الأبواب ويدفعون لهم ما يبهرهم، فيخلوا الدور، كمن سبقوهم ويبتعدوا إلى الاحياء الجديدة في الأطراف. فهم يمتلكون فائضاً يعينهم على العيش بلا عوز، أو يمكنهم من العلاج.

كنا نسمع عن مشاريع الدولة لصد العواصف الرملية عن المدن بـ «أحزمة خضراء». بعد حركات العمران الجديدة وشراء الداخل وهجرة أو تهجير الفقراء ومتوسطي الحال إلى الاطراف البعيدة ونهوض العمارات ذوات الطوابق العالية، قلَّ معها الكلام عن الاحزمة الخضراء. لم تعد ضرورية، أحياء الفقراء على الحافات والضواحي، كما في الحروب، أحزمة بشرية، هم سيكونون أحزمة خضراء ضد الرمال الآتية. فلا داعي للسرعة ولا لمناقشة موضوعات وجدت حلها بنفسها. نحن الآن نزرع البشر على الأطراف والحافات. ولهؤلاء فوائد كثيرة واحدة منها هذه، وأخرى تحبونها ستبعدهم ومشكلاتهم عن مراكز المدن. هذه ستبقى للاثرياء والشركات والاسواق التجارية والمكاتب. لن تمر سنون طويلة حتى تأخذ التجارة الفروع المتصلة بالشوارع الرئيسة، وهكذا تصبح المدن مدناً!

يمكن أن تكون الظاهرة حتى الآن مقبولة مقارنة بمثائل لها في العواصم الكبرى، وأن اختلف دخل الفرد هنا وهناك واختلفت ميزانيات الدول. لكن هناك مواصلات منتظمة، قطارات انفاق وتكامل خدمات وأمان ولا مسافات قفر، صحراوية أحيانا، تعزل ناس تلك الاطراف عن المدينة وعن شروط الحياة المدنية. المحصلة، مهما كانت النوايا وراءها، هي إبعاد الناس عن المدن ليتمكن راس المال والنفوذ، من الهيمنة على المركز وامتلاكه. ولن تنتهي المسألة هنا، النفوذ المالي سيتمدد أكثر هذه المرة إلى الأطراف لتحويل الأموال إلى ممتلكات، وهنا ستحدث هجرة ثانية مكملة من الأطراف القريبة إلى الأبعد منها. تقدم الرساميل مستمر والإبعاد مستمر، وتسند هذه توزيعات الدولة لقطع أراض للسكن في الابعاد الجديدة، ومزيداً من البعد عن مراكز التعليم وعن المشافي وتجمعات الاختصاصيين ومراكز العمل وعن الأسواق الكبيرة مما يقطع تواصلهم اليومي بالمدينة أو يقلّله إلى حدِّ الضرورات. هنا ستنحتكم بالحركة أجور النقل والوقت المستغرَق للوصول وللعودة. المدينة الآن للمتموّلين ومكاتب أعمالهم وللشركات والمخازن والنوادي والصالات. هم في راحة من بؤساء الأرض والمرضى والشحّاذين كلهم خارج مركز المدينة.

الدولة، بنيات حسنة وبُغية أو بحجة الاهتمام بالفقراء وضرورة أن يكون لكل أسرة سكن- وأحيانا يقولون لكل عراقي سكن- راحت في مناسبة حماسية وأخرى توزع قطع أراضٍ سكنية» في مناطق أبعد وتشجعهم بقروض أو وعود على الانتقال، أو الابتعاد، عن مراكز المدن.

وسواء صحّت النيّات وحسُنت، أو هو خطأ في نهج الاصلاح وحل مشكلة السكن، فثمة نتائج مستقبلية خطيرة مؤذية للناس وللدولة. هذه النتائج غير منتَبهٍ لها اليوم لكنها ستتُعِب الدولة وترهقها غداً، وسنأتي إلى التفاصيل..

حسناً وزعتم قطع الأراضي بعيداً وعلى مسافة عشرين، ثلاثين كيلومترا من المركز، وانتقل الفقراء. من يؤمِّن لهم مواصلات رخيصة يقدرون عليها ونحن نعرف أنّهم فقراء؟ ليس لرب الأسرة ليصل إلى عمله، ولكن لاولاده ايضاً في الثانويات والمعاهد والكليات؟ وكيف الوصول الى المستشفيات في الليل، ومن يؤمن كل هذه الطرق والمساحات الفاصلة والخالية، أم أن الدولة ستوفر كل هذا؟ متى؟ لماذا لا نكون واقعيين قليلاً؟ كم من الاموال تحتاج الدولة لتبليط الطرق وبناء المدارس والمشافي ومراكز الشرطة والبلدية والماء والكهرباء والصرف الصحي، ولكل هذه الأحياء في التجمعات السكانية المتناثرة والمتباعدة وفي الاتجاهات الاربعة، وبعيداً كل هذا البعد عن المدينة ومركزها؟

واذا كانت الحجة بالمجمعات الاستثمارية فهذه، واذا ما يسّرت الدولة قروضاً وخدمات، غالية الثمن جدا على الفقراء ومتوسطي الحال، فكيف يدفعون أقساطاً تزيد عن رواتبهم أحياناً او لا تُبقي لهم ما يعيشون فيه؟ اذاً، هي لسواهم! هي املاك مستقبلية مدّخرة حتى اذا لم يتم شراؤها. اي مركز تخطيط، لا سيما ان كان بمستوى وزارة، لا بدَّ من ان يمتلك أفقاً مستقبلياً. وهنا نقول إنّهم رسمياً على علم بذلك لكنهم يخدمون هذه الفوضى إذ يرونها توسّعاً للمدن وحلولاً لمشكلة او مشكلات السكن. وان هجرة الفقراء من المدن هي بعض من الانتقال الحر والسكن الحرّ.. هذا كما يبدو، كلام مهذب ويمكن تقبله حسب ذلك المنطق. لكن ما نواجهه أكبر من ذلك التهذيب ومن النوايا الحسنة. نحن في حال الخطأ والصواب. وما نواجهه في المستقبل، وخلال بضعة عقود، أكبر خطراً مما تستطيع غداً ان تمحوه بعض الكلمات المهدئة. فقر الناس وبعد مساكنهم لا يشفع لهما ان الدولة ستوفر لهم طرقاً جديدة وخطوط نقل وسيطرات للطرق ومراكز امنية وستكون في مجمعاتهم مستشفيات ومدارس ودفاع مدني وصرف صحي وسيكون هناك ضمان لأمن الطرق الطويلة الموحشة ليلا ونهاراً ..كل هذا الكلام لا ندري متى يتحقق.

هي مراكز المدن تشكو من ضعف الماء والكهرباء ورداءة التبليط والمجاري وماتزال مستشفيات ومدارس غير مكتملة منذ سنوات.. فلا يمكن أبداً الاعتماد على الوعود، هذه قد تتأخر كثيراً او لا تتحقق أصلاً، اذا ساءت ظروف الدولة المالية، هبوط اسعار النفط مثلاً! كيف نضمن عند ذاك عيش الناس ومتطلبات الحياة المدنية التي تحتاج لها المجتمعات اليوم؟ وكما تساءلنا من قبل كيف نؤمن كل هذه الطرق الطويلة والمساحات الشاسعة والمتباعدة؟ مشكلات جديدة ستنبثق، كثيرة وصعبة، وستكلف الدولة ما لا تستطيع. وكلف كهذه تتزايد ولا تقل. لم يفكر أحد بأنَّ هذه التجمعات البعيدة المنقطعة قد تكون ملاذات للمُدانين، لمهربي المخدرات والعصابات فضلا عن قطاع الطرق.. هذا جانب سيئ وسوء قد يؤدي الى انفلات وتمردات عنيفة. الافضل هو دعم النسيج الاجتماعي المدني ورفع مستوى الخدمات وتعميم التحضر، لا خلق مشكلات للدولة تزداد تعقيداً وصعوبة في المستقبل بينما يمكن اليوم تلافيها بوحدات سكنية وبناء عمودي يأخذ في الحسبان الاحتياجات العامة وان لا يكون بعيداً، يعزل الناس عن المدينة.

لتكن الوحدات السكنية العمودية في فراغات المدن والاطراف القريبة التي تلامس المدينة وتشكل بعضاً منها. وهذه الفراغات كثيرة كافية. بهذا يصبح توسع المدن جزءاً من حيويتها.. لن تُحَلّ ازمة السكن بالطريقة التي تتبعونها حتى لو وزعتم البلد كله قطعاً سكنية. والا فنحن بأزاء عشوائيات من نوع آخر ملغومة بالكثير مما نخشاه. وان بدت هذه التجمعات مهذبة من بعيد فواقعها سيكون سيئاً ومبعث شكوى لا تنقطع للناس

وللدولة...