حلم في أربع لقطات للشاعر بلند الحيدري

ثقافة 2023/04/17
...

  ريسان الخزعلي


 (1)

حلمٌ في أربع لقطات، قصيدة الشاعر الكبير بلند الحيدري من مجموعة (أغاني الحارس المتعب) الصادرة عن دار الآداب البيروتية عام 1971.  في هذه القصيدة يعتمد الشاعر البناء الدرامي توليداً وشكلاً فنياً:

1 -  لقطة أولى

2 - لقطة ثانية

3 - لقطة ثالثة

4 - لقطة رابعة – تصوير من الخارج 

5 - الصالة خالية إلّا من رجل نائم

ومثل هذه التقنية الفنية/ المسرحية قد منحت القصيدة بعدها الدرامي الفاعل، وكان المسرح كفضاء هو الحاضن للموضوع الشعري/ الحدث فيها، وبذلك تداخل ما هو درامي مع ما هو شعري، وكان المسرح بثياب الشعر، والشعر يتقدم ممسرحاً – وهذه ثنائية فنية تمكن منها الشاعر ببراعة إضافية، ألا وهي وعي فن التشكيل اللوني الذي يدركه، معرفة وثقافة وتنظيراً، إذ يشعّ اللونان الأخضر والأحمر في تدرّج يتناسب مع تطوّر الحلم الذي قامت القصيدة في مسار نموّها على تحولات أحداثه.

 (2)

لم يضع الشاعر ديكوراً ثابتاً أو متغيراً لمشاهد القصيدة، وإنما اعتمد الأسلوب التصويري من أجل تجاوز التشابه المألوف في كتابة القصيدة/ المسرحية، ولكي يُخرج القصيدة من محددات الزمان والمكان، لأنه في لحظة حلم، لذلك كان أسلوب اللقطات السريعة هو الانسجام الفني مع حالة زوال الحلم الحتميّة.. وهكذا كانت اللقطات - أولى، ثانية، ثالثة، رابعة – متوالية مع توالي رباعية الحلم. ولكي يمنح القصيدة استمراراً في المشهدَة المسرحية، جاءت اللقطة الخامسة: الصالة خالية إلّا من رجل نائم، من دون الإشارة إلى أنها لقطة خامسة، كون التصوير الشعري لم يتم فعلاً، وبذلك ترك الصالة خالية، لكي يستمر هذا الخلو في دلالته الوجودية/ الحياتية حيث المخرج والمنتج والمتفرج (أنت، أنا، هم) أي أنَّ كلّ الحضور الإنساني الشامل يشترك في الفجيعة، فجيعة الخلو/ القتل.

*.. لقطة أولى:

تفترشُ الشاشة عينان

انفرجت شفتان

ابتسمت، لمعت عدّة أسنان

ويغورُ اللونُ الأخضرُ في كلّ الألوان.

في هذه اللقطة، يكون التحوّل اللوني من الأبيض (الشاشة، الأسنان) إلى الأخضر.

*.. لقطة ثانية:

رجْلان تجوسانِ الليلَ بلا صوت

الظلمةُ توحي بالموت

تلتمعُ السكّين

تتجمعُ في النصل رؤى لسنينٍ وسنين

وبلا صوت

تنطبقُ الشفتان

ما من أثرٍ للقبلة في الفم

لا شيءَ سوى قطرةِ دم

ويغورُ اللونُ الأحمرُ في كلِّ الألوان.

وهنا، في هذه اللقطة يكون التحوّل اللوني من  الأسود – الليل والظلام إلى لمعةِ بياض – السكّين ومن ثمَّ إلى الأحمر – قطرة دم (اللون الأحمر). مع الملاحظة أنّ (الأسود) لا يعتبر لوناً في علم الضوء الفيزياوي، إلا أنَّ الشاعر أراد هكذا، وبذلك كان الانتقال من اللون الأخضر – دلالة الحياة في اللقطة الأولى إلى الأحمر – دلالة القتل في اللقطة الثانية.

*.. لقطة ثالثة:

إسم المخرج:  أنتَ.. أنا.. هم

إسم المنتج: أنتَ.. أنا.. هم

إسم المتفرّج: أنتَ.. أنا.. هم

والشاشةُ فسحةُ حلم.

في هذه اللقطة تكون الشاشة فسحة حلم لا غير، فسحة لملاحظة المقتول/ القاتل – المعنى الذي يتململ في فسحة حلم/ قطرة دم:  

والقاتل والمقتول أنا

لا شيءَ سوايَ أنا

معنىً يتململُ في قطرةِ دم.

*.. أما في اللقطة الرابعة – تصوير من الخارج، يفرُّ المخرج، والمتفرج يجزع، ويسقط الفيلم في مشهده النهائي – قطرة دم:

سقط الفيلم

فرَّ المخرج من بابٍ خلفي

بصقَ المتفرّجُ في كفّي

سقطَ الفيلم

أربعُ لقطاتٍ غرقت في نقطة دم 

....،

ولكنّي وأنا المخرجُ والمنتجُ والمتفرّجُ

لا أملكُ من كلِّ الدنيا إلّا

فسحةَ حلم

لا أملكُ بيتاً لحنيني، صدراً يأويني

لا أملكُ مأوىً في أيِّ مكان

ولأنِّي لا أملكُ مأوى، لا أعرفُ مقهى، ملهى

مبغى يلقاني

ولا امراةً في حان

سأظلُّ هنا، وسأنتظرُ الدورَ الثاني

الصالة خاليةٌ

إلّا من رجلٍ نائم.

إنَّ قصيدة/ حلم في أربع لقطات/ .. القصيدة، المسرحية بثياب الشعر، تُمثّل لجوء الإنسان في خسارته الوجودية/ الحياتية إلى منطقة الحلم، في محاولة تعويضيّة عن هذه الخسارة: سأظلُّ هنا، وسأنتظرُ الدور الثاني. والخسارة شاملة: خسارة البيت، المرأة، المأوى، المقهى، المبغى. ومثل هذه الخسارة يؤكدها الشاعر بلند الحيدري في (أغاني المدينة الميّتة)... ، لا حب، لا أحلام، لا امرأة.

وبذلك يفضح غرائبية واقعه باللجوء إلى منطقة النوم – الحلم، لكنَّ الحلم هو الآخر كان غرائبياً، وهنا تصح توصّلات (فرويد) من أن الحلم انعكاس

للواقع.