نقّاد الميديا.. في مهبِّ الاستسهال

ثقافة 2023/04/19
...

البصرة: صفاء ذياب


في تصريحاتٍ لباحثين في التحوّلات التي تطرأ على العالم، أكّد أحدهم أنَّ التطوّر الذي مرَّ على العالم منذ بدء الخليقة وحتى العام 2000، يوازيه تماماً التطوّر الذي طرأ من العام 2000 وحتّى اليوم، وهذا ما يمكن أن نلمسه بالتحوّلات السريعة التي لا تتوقف، هذا التغيّر الذي أثّر في كلِّ شيء، بدءاً من الفنون بعد أن دخلت الفنون الرقميَّة، وصولاً إلى الترجمات وما فعله موقع (كوكل) فضلاً عن التواصل الذي جعل البشر وكأنَّهم يعيشون في غرفة واحدة.. وما زاد الآن مواقع الذكاء الاصطناعي التي بدأت تُعيد تشكيل العالم والتنبّؤ بالمستقبل، وكأنَّنا نرى غدنا أمام أعيننا من دون الحاجة إلى العرّافين أو مستطلعي الغد.

وفي الوقت نفسه، لم تكن الآداب بمعزل عن هذا التطور، فالميديا أصبحت أهمَّ من أيِّ مجلة أو صحيفة كما في السابق، بل صار اليوتيوب والمواقع الخاصة والفيسبوك والتويتر والأنستا، من أهمِّ المسوّقين للأعمال الأدبيَّة، وهو ما دفع الكثير من كتّاب هذه المواقع ليكونوا نقّاداً يُقيِّمون الأعمال الإبداعيَّة بعد أن تحوّل قبلهم الكثير من الناشطين إلى كتاب، لكن من دون أيِّ قواعد أو ضوابط لكتاباتهم.

وربّما نطرح هنا مشكلة النقّاد لأنّها تؤثر بشكل كبير في تقديم جيلٍ جديدٍ لا يعي أيَّ شيء بالعلوم الإنسانيَّة، ولا بالمناهج أو النظريات النقديَّة، وهو ما يمكننا من أن نُطلق عليهم نقاد السوشيال ميديا، ليس همّهم إلَّا الانتشار على حساب المضمون والعلميَّة، والمحاولة من النيل لأساتذة الأدب وما يكتبون… فهل نحتاج لنقاد ميديا حقيقيين كي نواجه سيول التفاهة التي تخرج إلينا من الفيسبوك واليوتيوب والتك تك؟

 ألقاب وهميَّة

يشير الدكتور محمد كريم الساعدي إلى أنّه في ظلِّ الفضاء الافتراضي الذي أصبح أكثر فاعليَّة في كثيرٍ من الأحيان في تشكيل العقل البشري ومدركاته المختلفة لما يحتويه هذا الفضاء من معلوماتٍ هائلةٍ جداً فيها من الجيد الكثير ومن المضلل الأكثر كون من يدوّن في هذا الفضاء ولاسيّما في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وصفحاتها التي تحمل في كثير من الأحيان أسماءً وألقاباً يمنحها صاحب الصفحة لنفسه والغرض منها جذب أكبر عدد من المتصفحين في هذه المواقع، مما جعلنا أمام إشكاليَّة حقيقيَّة في كون من يكتب ويشكل رأياً نقدياً ليس لديه العلميَّة الكافية في مجال التخصّص ممَّا يحرف المعلومات عن مسارها الصحيح، وتشكل هذه المعلومات متبنيات وآراء تُستخدم في إبعاد المتصفحين عن الحقيقة المرجوة. ومن ثم، فإنَّ هذا الفضاء المعرفي بحاجة إلى نقاد حقيقيين يقودون الوعي المعرفي في مجالات متعددة حتى تتبيّنَ للمتصفحين أمورٌ عدة منها؛ مصداقيَّة المعلومة وعلميتها في مجال التخصص، وأهميتها في تبنّي آراء مستقبليَّة سليمة للقارئ، وهدفها إنتاج وعي سليم يسود هذه المواقع ويقلل من الأصوات الرديئة التي تتصدر الساحة الافتراضيَّة الآن.

 وجاهة نقديَّة

ويتذكّر الدكتور أحمد الزبيدي الفكرة المحوريَّة التي دار عليها الكتاب الشهير (نظام التفاهة) وهي: (نحن نعيش مرحلة تأريخيَّة غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة).. وليس النقد الأدبي ببعيد من تسرّب الطارئين والتافهين إلى مفاصله، بعد أن وفرت لهم (المنابر المجانيَّة) فرصة (الصياح النقدي) بجعجعة لغويَّة تجعلنا نترحَّم حتى على (ضجيج العربات الفارغة) فبعد أن طردهم (المنهج العلمي) لأنَّهم لا يفقهون شيئاً عن آلياته، وبعد أن استقبلهم (النقد المجاني) الخالي من (العلميَّة والمنهجيَّة) هرعوا إلى مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب وغيرها من الوسائل التكنولوجيَّة التي تسهِّل عليهم الوجاهة النقديَّة، تسلحوا بابتسامة عريضة تعبّر عن سيل لعاب الرضا عن (النصِّ المجاني) القادم من حضن التفاهة ليكون لقاء السالب بالسالب (إيجاباً) ثقافياً يتيح له لقب (الناقد) بعد أن يمتلك (هويَّة نقابيَّة) تسمح له باختراق القاعات والمؤتمرات والجلوس في الصفِّ الأول من النقاد! وحتى يحظى بهذه المكانة النقابيَّة العالية عليه أن يكون ناقداً نقابياً وفياً لوليّ نعمته الجديدة.. وإلا كيف مُنِح لقب (الناقد) من دون دراسة علميَّة وثقافة منهجيَّة وخبرة ودراية وممارسة واشتعال للشيب والعقل؟

 وجها الميديا

ويرى الدكتور علي داخل فرج أنَّ ظاهرة نقاد (السوشيال ميديا) من سلبيات العولمة والانفتاح الإعلامي والرقمي، ولعلها ظاهرة عالميَّة، وليست عربيَّة أو عراقيَّة فقط. وهذا النوع من الكتابة (النقديَّة) الذي يصادفنا كلَّما تصفحنا الفيسبوك أو مواقع التواصل على شبكة الإنترنت- في الأعمِّ الأغلب- قد يمكن لنا أن نصفه بـ(المحتوى الهابط)، فمن غياب الفكرة وتفكك اللغة وضعف الأسلوب إلى شيوع المجاملة لـ(كتاب) قد تربطهم علاقة ما بـ(الناقد)، فضلاً عن السرقات والسطو على جهود الآخرين..

 وليس خفياً أنَّ من أهمِّ أسباب انتشار هذه الظاهرة هو استسهال الكتابة، وسهولة النشر، والرغبة في الشهرة أو الانتشار بصرف النظر عن أصالة المادة المنشورة، وكثيراً ما نجد من هؤلاء (النقاد) من يُصدّر اسمه بكلمة (الناقد)، و(الأديب)، و(الأستاذ)، و(الدكتور)، وهو في الحقيقة ليس أكثر من زارع وهمٍ وحاصد وهم، على الرغم من حصول بعضهم على شيءٍ مما قد يظنه هو شهرة بسبب نوع من المجاملات القائمة على علاقات شخصيَّة أو ضعف في عمليَّة التلقي نفسها من قُرّاءٍ مبتدئين وغير متخصصين.

مضيفاً: ولابدَّ من الإشارة إلى أنَّ ثمة استثناءات يمكن رصدها بسهولة، ففي الوقت الذي شاعت فيه الكتابات النقديَّة الهشَّة والضعيفة على السوشيال ميديا، فإنَّنا لا نعدم أيضاً نوعاً آخر من الكتابة النقديَّة الحقيقيَّة والأصيلة، فقد يجد بعض الكتاب الذين يمتلكون أدوات نقديَّة في النشر الرقمي فسحة حقيقيَّة بعد أن تُغلق في وجوههم أبواب النشر الورقي، ومن ثَمَّ نجد أنَّ من الضروري الالتفات إلى أثر الميديا بوجهيها السلبي والإيجابي، ومواجهة الزيف الشائع بكتابات نقديَّة أصيلة لنقاد حقيقيين يخففون من وطأة الواقع الراهن.

 نقد مشوّه

ويبيّن الدكتور نزار فراك آل صليبي أنَّ النقدَ علمٌ قائمٌ بذاته، له أصولٌ ومجالاتٌ لتطبيقهِ، ولهذا فإنّ القائمينَ عليه ليسوا أناساً عاديين. هذا ما كنّا نعرفهُ سابقاً، ولكن مع انتشار قنوات التواصل الاجتماعي بطريقة مفرطة، والانفتاح الكبير الذي حصل بعد عام ٢٠٠٣ من دون أيِّ تقنين لها، أصبحتْ مسألة النشر أمراً سهلاً، وبفضلها برزت أسماء وأصوات لم نسمع بها من قبل.

هذا التسهيل والانفتاح وكثرة البرامج أوجدتْ حالةً غيرَ صحيَّةٍ، وهي ظاهرة انتشار نقّاد السوشيال ميديا، الذين يحاولون أن يتسلّقوا إلى سلّم الشُهرةِ، على حساب المضمون العلمي والقِيَمي للنقد، ليظهرَ لنا في نقدٍ خاوٍ فقيرٍ، كما أظهرتْ لنا صفة (كاتب) ولقب (ناقد) على كلِّ من هبَّ ودبَّ. وبالتالي أحدثتْ شرخاً كبيراً بين النقد الحقيقي القائم على شروط النقد والناقد، والنقد المشوّه. النقد (الفيسبوكي) إن صحَّ التعبير.

 موت الناقد

ولا يعني الدكتور مثنى صادق كاظم بمصطلح (السوشل ميدي) ما يُنشر عبر المواقع النقديَّة الرصينة أو الصحف الإلكترونيَّة التي تُعنى بالحركة الأدبيَّة؛ لأنَّ هذه المواقع لا تنشر أيَّ مادةٍ نقديَّة إلا بفحصها... لكنه يعني ما يُنشر على صفحات شخصيَّة من كتابات أو فيديوات حول عمل أدبي ما؛ وبذلك أصبح كلُّ من يريد أن يصبح ناقداً ما عليه إلا أن يكتب ملاحظة هنا أو هناك أو يصوّر فيديو، حول عمل ما حتى ينتشر- للأسف- بوصفه ناقداً، بل أنَّ هذه الملاحظات التي أساسها العاطفة غالباً، قد تكون تعليقاً على نصّ منشور للأديب؛ فيقوم هذا الأديب بتصوير هذا التعليق الموجز وينشره على صفحته فرحاً بما كتب عن منشوره، والسؤال الإشكالي هل يعد التعليق نقداً أو المنشور ذو الأسطر القليلة نقداً؟ الجواب بحسب رأيه الشخصي لا، إنما كتب لجذب الانتباه...

ويضيف: النقد يقسم على أنواع منها النقد الأكاديمي (بحوث أو رسائل أو أطاريح) والنقد المقالي في (الصحف والمجلات) وبعيداً عن الشخصنة يجد كاظم حتى هذه التعليقات أو المنشورات وإن صدرت عن ناقد؛ ليست نقداً يندرج تحت ما ذُكر من أنواع، “على أنني لا أقلل من قيمة هذه المنشورات بقدر ما أنصح بأن ينشر ذلك على شكل مقال في صحيفة أو مجلة تعنى بذلك”. يشير الباحث والناقد الأميركي ماكدونالد إلى مصطلح (موت الناقد) بسبب ظهور المنصات هذه، الأمر الذي قد يسبب نعي الناقد الحقيقي؛ الأمر الذي يملي على النقاد إعادة تموضعهم، وجعلهم يقودون المتلقي إلى الاقتناع بشطب هذا العمل الأدبي أو ذاك من حساباتهم؛ بسبب الترويج العاطفي له أو الشخصي أو النفعي.

 الاستهلاك الثقافي

وبحسب الكاتب ساطع راجي فقد اعتادت الثقافة العراقيَّة على مستوى معين من الوعي المتخصص والمخلص للعمل الإبداعي في التعاطي مع الجمهور، وهو وعي نخبوي كان قادراً على فرض سلطته على التداول الثقافي بسبب محدوديَّة قنوات التواصل التي كانت غالباً منسجمة مع هذا الوعي، شكلاً (المجلة الشهريَّة أو الفصليَّة) وفاعلين (المثقفين القائمين على إدارة شؤون النشر)، ومن المتوقع أن يبقى هذا النمط قائماً ومسيطراً في قنواته التقليديَّة التي تشهد مزاحمة من قنوات التواصل الجديدة التي تزامن ظهورها مع تحول عراقي مهم هو ظهور الثقافة كقطاع اقتصادي وتحديداً توسع مؤسسات النشر الخاصة وهو ما يحتاج إلى توسع في المتابعة والنقد في المقابل تراجعت المجلات وتقلص اهتمام الأكاديميين الجدد بالحراك الثقافي اليومي، وإذا ما استثنينا حالات المجاملة الشخصيَّة بين الكتاب، فإنَّ المدونين الذين يقدمون أنفسهم كنقاد، ومهما كان مستوى وعيهم، يمارسون دوراً مهماً في لفت الأنظار إلى الكتب والمؤلفين والأفكار والمصطلحات، ويفتحون باباً يمكن أن يغوي المتلقي بمتابعة ما يطرحونه ثمَّ التوسع في ملاحقة كتاب أو مؤلف أو فكرة أو قضيَّة ما، إنهم ينجحون في جذب “مستهلكين جدد” للثقافة لو أمكننا استخدام مصطلح “الاستهلاك الثقافي” وهو استهلاك ضروري ومنتج، لأنَّ الطرح السهل قد يدفع إلى ما هو أعمق، صحيح أنَّ بعضهم يبسط القضايا أكثر مما يجب ويمارس المجاملة بإسراف، لكنَّ هذا التبسيط على مخاطره وفي مقدمته إهدار مفهوم النقد!!، هو أيضاً ضرورة في وسائل التواصل الجديدة.

في المقابل، يلاحظ راجي عدداً من النقاد والمثقفين يجيدون استخدام وسائل التواصل ويطرحون أفكارهم بطريقة تناسب قنوات التواصل الجديدة، لكنَّ عددهم محدودٌ وإذا أراد النقاد الذين يعدّون أنفسهم ممثلين “للنقد الموضوعي والعلمي” استعادة موقعهم فعليهم تطوير لغتهم عندما يستخدمون وسائل التواصل الجديدة إلى جانب تطوير الدرس النقدي على مستوى التكثيف والتركيز والسلاسة للانسجام مع التقنيَّة والمناخ الذي تفرضه مع الإبقاء على سلوكهم التقليدي في القنوات التقليديَّة الأخرى (المحاضرة، الندوة، المجلة، البحث الأكاديمي، الكتاب).