الطبيعة والمجتمع في مرتفعات وذرينج

ثقافة 2023/04/19
...

 ريم حبيب 

مرتفعات وذرينج هو عنوان رواية إميلي برونتي التي تعد من أعمدة الأدب الإنجليزي، إنها غواية مسكوكة بالكثافة والغموض ورومانسيَّة إلى أبعد الحدود على أساس ما بها من انطلاق الخيال وما تتضمنه من عواطف مشبوبة، ثم تذهب إلى أبعد من ذلك حين تتبع الشبه بين برومثيوس للشاعر شيللي وبين رواية إميلي برونتي في تصور كل من الكاتبين لفكرة الافتداء عن طريق الحب.

والملاحظ في حضور العنوان إنه لم يكن تلفظاً اعتباطيَّاً، بل إنَّه مقصود لذاته بهدف إنجاز مجموعة من الوظائف على مختلف المستويات: الحكائي أضفى على الحكاية بعداً واقعياً أنقذها من أن تكون مغرقة في الرومانسية.

إن الرابطة بين البراءة والطبيعة هي الفكرة التي تدور حولها أحداث الرواية في التناقض بين الطبيعة والمجتمع. 

الشكلي، ارتبط بالتوازن بين نزعة الخيال إلى التحليق في وصف الطبيعة التي تحيط بمرتفعات وذرينج. 

لعل حقيقة الأمر أن أحداث الرواية لا تجري على مستوى شخصي، أو طبيعي فقط، ولا هي تجري داخل إطار اجتماعي فقط.

بل أن كل مستويات الوجود، سواء المستوى الشخصي، أو الطبيعي، أو الاجتماعي، أو الميتافيزيقي، تتداخل في هذه الرواية، وتلعب دورها. 

ففي مكانٍ ناءٍ معزولٍ تماماً عن ضجّة المجتمع تشيد إميلي برونتي أحداثها بتوازن دقيق بين تاريخ عائلتين من عائلات الشمال في انجلترا في بداية القرن التاسع عشر. 

وهما عائلة (إيرنشو) وعائلة (لينتون) وتبدأ القصة بتبني السيد (إيرنشو) لطفل مشرّد وجده أثناء رحلة عمل وحيداً بالشارع ومنحه اسم (هيثكليف) يشابه اسم طفل العائلة المُتوفى، وتبدأ الصراعات بين أطفال السيد «ايرنشو» وهما «هاندلي» و «كاثرين» أو «كاتي»- كما أعتادوا أن يلقّبوها- و بين الطفل الجديد «هيثكليف»؛ حتى تنضم «كاتي» إلى صفه؛ لتكونَ بدايةً لقصة حب جامحة، أطاحت بكلّ من أعترض سبيله.

 تنحصر فكرة الرواية في هذا التناقض بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي، بين الدوافع الطبيعية في الشخصيات وبين المظهر الاجتماعي الخادع، أو بين ما هو دائم وما هو عارض. 

في الواقع إن الروائية البريطانية إميلي برونتي كانت أول روائية في القرن التاسع عشر تحقق ذلك التلاحم بين الموضوعية والذاتية، بين الواقعية والرومانسية في الرواية الإنجليزية.

والحقيقة أن أسلوبي التعبير الواقعي والرومانسي في الرواية يوحيان أيضاً بأن إميلي برونتي كانت مشغولة بهذا التناقض بين الطبيعة والمجتمع.

وليس أدل على هذا من تصوير الطبيعة والاهتمام الذي توليه الكاتبة للتفاصيل الدقيقة معبرة عنه بصيغة واقعية، بل طبيعية. 

من أشجار التنوب القزمة إلى صف أشجار الشوك الهزيلة وقد مدت أطرافها كلها في اتجاه واحد كما لو كانت تطلب إحساناً من الشمس.

وفي وصفها لبيت هيثكليف البدائي الخشن المتمرّد في الطبيعة وعلى الطبيعة والنوافذ الضيقة التي بنيت على عمق في الحائط، والأركان التي تحملها أحجار ضخمة بارزة، والذي يثير فينا الإحساس بالغموض. 

ولعل هذا التوازن الدقيق بين الخيال والحواس، بين ما هو طبيعي وبين ما هو مكتسب، بين جموح العواطف والارتباط بالمحسوسات يساعدنا على تحديد الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الرواية من جدليات الصراع بين قوتين متعارضتين مما يعطي مجرى الأحداث انعطافات جديدة.

إنَّ المواضع الوصفيَّة التي تصور الأمكنة، تؤكد بعض الخصائص الرومانسيَّة مثل الاهتمام بالطبيعة والماضي والغموض، وفي أعقاب وصف البيئة الطبيعيَّة يجيء وصف مرتفعات وذرينج ذاك الوصف الدقيق الذي يكشف عن التفاعل بين الحقيقة الداخلية للشخصيات وبين الظروف التي تحيط بها ويبين العلاقة العضوية الوثيقة بين طبيعة الفرد وبين طبيعة المجتمع الذي ينمو فيه 

الفرد.

الحق إنَّها رواية ساحرة بفضل ثراء نسيجها الذي يتآلف من تلاحم الجانب الخلقي، بالعاطفي، بالاجتماعي، والنفسي. 

كما تتناول حقائق الحياة الجوهرية والمفهومات الاجتماعية عن المركز الاجتماعي والمال، والأشكال الاجتماعية التي تحكم العلاقات الإنسانيَّة والنبذ الاجتماعي ومن ثم الاغتراب عن أسلوب الحياة البسيطة.

إلا أنَّ الرومانسيَّة التي تفيض بها أحداث الرواية تبقى النقطة الأساسية التي تجعل هذه الرواية تتفق مع الطبيعة البشريَّة ومع مزاج العصر في كل زمان وأوان.