حرية جواد سليم

ثقافة 2023/04/25
...

 د. أحمد جارالله ياسين 


 من يطلع على سيرة جواد سليم ومذكراته يتبين له أن نصب الحرية.. لم ينجزه جواد استجابة لتكليف رسمي من النظام الجديد بعد 14 تموز 1958، لترسيخ فكرة (الحرية) من الثورة بمظهر فني بصري، يحضر يوميا وسط العاصمة، حدَّ ثباته ثقافيا ودلاليا في الذاكرة الاجتماعية، بقدر ما كان ذلك النصب استجابة لرغبة جواد الفنية وحلمه القديم بضرورة وجود نصب فني كبير وسط بغداد، مثلما شاهد ذلك في الدول الأوروبية، التي درس فيها أو زارها، ومن ثم كانت الغاية الفنية الجمالية لديه هي الدافع الأكبر من الغاية الرسمية للسلطة حينذاك، التي وافقت على المشروع ودعمته ماديا.   وكونه فنانًا ذكيًا فقد وجد في ذلك التكليف فرصة تاريخية لتحقيق حلمه الفني، لا سيما أنه في مذكراته يذكر في أكثر من مرة أن الجهات الرسمية قد رفضت له سابقا أكثر من مشروع فني حداثي في العاصمة، بسبب تدني فهمها للفن الحديث.. والآن حانت الفرصة لإعلان انتصار ذائقة الحداثة الفنية على الذائقة التقليدية، التي شاكسها سابقا بلوحاته البغدادية بعد أن جاءت المبادرة من جهة رسمية..    فكرة الحرية التي عالجها جواد في النصب كانت ايضا من وجهة نظر جواد حسب المتأمل في شخصيته ومذكراته، هي الحرية بمفهومها الشامل وليس السياسي التموزي فحسب، لاسيما في الفن. ففي مذكراته يتردد ذكر الحرية لفظا ودلالة في كثير من أفكاره ورؤاه للفن والحياة، ونادرا ما تناولها من زاوية سياسية، فجواد كان أبعد الناس عن السياسة منهمكا بمشاريعه الفنية. ودراسة جواد الفنية في أوربا إنما كانت نتاج نظام ملكي، أرسله مع فائق حسن وآخرين، ليسهموا في تحديث الفن في العراق ويفتتحوا معاهد الفنون بعد عودتهم.. 

    لقد انشغل جواد بالتصميم الفني لرموز النصب وفق مؤثرات الفن الحديث فضلا عن مؤثرات الفن العراقي القديم السومري والاشوري. ولم ينشغل بصناعة نصب يعبر عن مرحلة معينة أو تجربة سياسية خاصة وايديولوجيا محددة، وإنما صنع نصبا حداثيا يتجاوز الأزمنة والأمكنة، ويبقى خالدا ليعبر عن فكرة الحرية التي يبحث عنها الإنسان دوما في العراق والعالم.. وفكرة الخلود حاضرة في مذكراته وبقوة أيضا، بعد إطلاعه عليها في التاريخ العراقي القديم الذي عاصر أعماله الأثرية في المتاحف..  لم يكن جواد مؤدلجا سياسيا، وإنما كان صاحب رؤية فنية تجاوزت بيئته وزمنه منتصرا دوما لفكرة الحداثة في الفن، التي لا تنفصم عن الحرية ومخلصا لمبادئ الجمال وليس لمبادئ سلطة سياسية ما في زمنه أو الأزمنة اللاحقة.