حجر السعادة.. صلابة الموروث ووحشية الواقع

ثقافة 2023/04/25
...

  د. كلثوم منصوري 

قد يندلق الألم وينزف طويلا، فيمنح حجرا مرميا في بستان منسي طعم السعادة، وقد يتهاوى كيان انسان وينكسر على رخام الأيام وهو يلعق بلسانه حافة ذلك الحجر، بحثا عن طعم حلو لسعادة موهومة قدرُها أن تنبع من قسوة الشقاء ومرارة الحزن.. هكذا يفترض الروائي أزهر جرجيس علاقة دلاليّة متينة بين الحجر والسعادة فيختار في عنوان روايته أن ينسب إحساسا باذخا مشتهى لا يناله، إلا من ابتسمت له الحياة وأشرقت في وجهه إلى حجر فيه ما فيه من الصلابة والشدة.. ولكن هل تقود ملاحقة السعادة بما هي لحظة مستعصية مشتهاة.

هي على الأغلب محلّقة في سماء الحلم إلى الانكسار على صلابة الحجر في الواقع المرّ؟ وهل على المُلاحق لها وقد منحه القدر ايّاها أن يرتمي في أحضانها للتَوّ؟ أم يغوص في زمن ثاو حتّى يظفر بها؟ أو عليه ربّما أن يتجاوزها، وكأنّها لم تكن لأنّه أدرك أخيرا أنّها من أوهام القدر، بل وجها من سخريته اللاذعة؟

بعض ما نسأل عنه نجد صدى له في رواية “حجر السعادة” للروائي العراقي أزهر جرجيس، التّي صدرت عن دار الرافدين في طبعتها الخامسة بتاريخ يناير 2023 وهي رواية من 32 فصلا معنونا ومن 316 صفحة.

يبدأ السرد في رواية “حجر السعادة” بخلخلة البدايات المطمئنة المسيّجة بالهدوء عبر جملة صادمة “ هكذا بعد عمر قضيتُه مُسالما كالدّجاج وجدت نفسي وجها لوجه مع قاتل مأجور ص7.

بهكذا أجواء نفسية ضاغطة يكسر أزهر جرجيس البنية الروائية الكلاسيكية ويجعل من قراءة الرواية عمودية لا أفقية، حيث تغدو متابعة القصة متابعة للبطل كمال توما/ كيمو وهو يجوس خلال الأحداث عبر مسارات شتّى تقفو أثره في رحلة حياته، طفلا حزينا مشرّدا يعاني من قسوة والده و وحشيّة زوجته وتمييزها المفضوح بينه وبين أخيه ريمون. طفلا هاربا من ذنب لم يرتكبه وجرم لم يقرفه، فشابا هشّا يفشل في الاحتفاظ بحبيبته، واخيرا كهلا ستينيّا لم تشبع الحياة من ايذائه وإيلامه، منتقلا بنا عبر عوالم كثيفة، وهو يحمل حُلم أن تتحوّل كاميراه الورقيّة أيام طفولته الأولى إلى كاميرا حقيقيّة ترافقه أينما حلّ وحيثما يمّم وجهه..

ومع كاميرا كمال تتجوّل عدسة الروائي أزهر جرجيس، عبر سرد ماتع ومشوّق في أروقة الحارات القديمة، وبين الأزقة والشوارع الضيّقة وتنفذ إلى أقاصي الظلمة وعتمة الحواري والبقع المنسية والمهمّشة في العراق، لترصد ما خفي من تفاصيل الصور فيها وإذ “بمئات من الصور بالأسود والأبيض وُثقت بعين فنان ماهر، شعرتُ وأنا أقلّب فيها بأنّ بغداد بأسرها تنام بين يديّ”.

لسنا أمام روائي ينسج عمله الروائي الثاني بعد “النوم في حقل الكرز” روايته الأولى، بل روائي مبدع تمرّس بالكتابة الأدبية وأجاد فنونها، روائي يتقن توظيف فنّ التصوير السينوغرافي ببراعة لافتة، ويوّجهه إلى المشاهد واللقطات المربكة، غالبا ملاحقا معالم البؤس والفقر والتهميش في الأسواق والأحياء الشعبية بكاميرا لا تفوت أي شيء، حتّى أنها تنفذ بين جدران الغرف المظلمة في أمكنة مثل خان الرحمة يفترض فيها القداسة، لكنّها أبعد ما تكون عن الإيمان والطهر..يحمل كمال توما كيمو عدسته وينتقل عبر الأمكنة ليلتقط عشرات الصور فتخترق عدسته المخفي والمحتجب، لتلامس الواقع في حرفيّة مَن يلتقط الصور لا ليُسّجل فقط، بل ليكون شاهد عيان على عذابات الذات وأوجاع المجتمع داخل العراق البلد الجريح، الذي مزقته الطائفية وعبثت به عواصف الفوضى الخانقة..وقد اختزل أزهر جرجيس في الرواية أسئلة وأحلاما وانكسارات، لأنّه من جيل طالما تمسك بالأسئلة الجارحة وأحيانا الساخرة، ورفض أن يركب موجة الابداع الروائي، إلا بالتعويل على امكانياته ومواهبه الذاتية. فكانت حجر السعادة رواية تحمل بصمة مختلفة وتعبّر عن حساسية روائية جديدة في العراق وفي العالم العربي تتمثل أوجاع الواقع بعين أدبية متفردة..

الشخصيات في الرواية تحمل أسماء منتقاة وتؤدي وظائفها داخل نسيج النص الروائي بإحكام دقيق. فجانيت هي الأخت الكبرى، وهي السند الذي يحتمي به كمال من قسوة والده، وموريس أفندي هو أول من قال لكمال “إنّ الكاميرا تحبّك” وخليل أفندي المصوّر هو قطب الخير، الذي انتشل كمال ودفع إليه بطوق النجاة، وجعله ينفتح على عالم التصوير ويتقنه، اذ أسرّ اليه بأبجديات المهنة واسرارها، وامّا نادية فهي الذات الأنثوية، التي فتحت قلبه على مشاعر الحبّ والعاطفة، وعلى متعة الجسد فانغمر معها في تجربة الحبّ، جاعلا الحبّ بديلا عن الحقد والكراهية والثأر، حتّى أنّ الرواية في مشهدها الغالق تختم بلوحة الحبّ الخارقة ..”طلع النهار ولم أنتقم» بقية الشخصيات التي اصطدم بها البطل وأصيب بشظاياها الجارحة تشغل مساحات مهمة، ولا تظهر الاّ لتدفع بالأحداث نحو مسارات شائكة ترافق البطل كلما اختنق وهو يواجه المجتمع.. كما هو شأن العصابات المسلحة، التي ارعبته وافقدته سلامه الشخصي.

واللافت أن الكاتب قد اختار تقنية الاسترجاع كاسرا نمطية السرد الخطي اذ تبدأ الرواية من حيث انتهت، من مشهد رعب صاغه ببراعة ليجسد بعمق حالة البطل الواقف في مواجهة الموت.. هل مات كمال توما بطلقة موّجهة من مسدس كاتم للصوت.. أم لم يمت؟ يفتحنا الكاتب على الحيرة منذ الصفحة الأولى، ولكنه يقول لنا انتظروا لن يموت كمال توما، إلا إذا أطلعكم على سرّه وسرد لكم حكايته بنفسه. لن يموت الاّ بعد أن يقتنع فعلا أو ربما يقنعكم معه أنّ الأرانب تصل أولا ...تتناوب الرؤى السردية عبر صوت الراوي المصاحب الذي يحتجب ليترك مكانه للراوي الشخصية. إذ القصة قصة البطل وهو الأكثر صدقا في نقلها بكل أمانة.. هو الصدق الفني اذن ذاك الذي يجعلنا نصدّق كمال توما في كل ما ينقله مؤرخا حياة الناس والمدينة.. بل نشفق عليه ونبكي معه غالبا وإن كنا نغضب منه أحيانا، لأنّ صوت القوّة بداخله لا يعلو بالدرجة الكافية..

يعمد أزهر جرجيس في أسلوب كتابته للرواية وفي انتقائه للغتها وتشكيله لمعجمها إلى البحث عن الخصوصية والتميز، عبر اخضاع هاجس الكتابة إلى تقنيات الاختزال والكثافة، معتمدا على تعدّد الروافد والأدوات الفنية والأسلوبية. كما أنّ الكاتب وقد عاش تراكمات من الانكسارات والمفارقات في حياته يوظف كل ذلك، فيزاوج بين السخرية والوصف الوجداني المثير للمشاعر، وإذا به وهو ينسج معالم حياة كمال توما لينحو بها من الضياع والتيه إلى النزعة الدراماتيكية أو التراجيدية، لا يتخلى عن بصمة كتابته الجمالية، ليثبت أنّ الكتابة الجميلة بإمكانها أن تبدع أدبا جميلا حتّى، وهي تحمل أسئلة وهواجس وتعبّر عن مأساوية الراهن المعيش، الذي يهجم بكل قبحه في اجتراحه للنص الروائي ..فماذا يعني أن انتمي إلى حدود وطن يعيش في مأزق جراحه وشروخه وداخل هوّياته الطائفية القاتلة، وأن أرفض الارتماء في أحضان الكراهية والأحقاد الأيديولوجية. بل وأن أكتب نصا أدبيا عظيما شاهقا، فيه دعوة إلى التسامح ونبذ الأحقاد ونشر الحبّ والسلام، سوى أن فطرتي سليمة وقلمي شريف..تحتاج رواية حجر السعادة إلى قراءة الصور القابعة داخل غرفة التصوير المظلمة بكل انتباه، والى التوقف عند المجازر المرتكبة في حق الأبرياء والى تلمس جراح الجسد والروح، التي من الصعب طمسها من ذاكرة الأطفال، وقد عبرت شلالات الدم وأشلاء الابرياء وعتمة العماء...هل تبدأ الكتابة حقا من لحظة الكراهية والحقد.. لا أعتقد.. إن الكتابة تبدأ من لحظة النسيان لكي تصنع ذاكرة جديدة لا يرتهنها زمن رديء أبدا ...

أين حجر السعادة من كل هذا...؟

لا يخرج كمال توما وهو يلوك حجر السعادة من مربع المأساة، لذاك نراه يرتشف حلاوته ارتشافا كلما وضعه تحت لسانه وسياط الحياة تجلده بقسوة جلدة جلدة: من اليتم إلى التشرد إلى الفقر إلى التيه.. لكن اللافت أنّ كمال توما وسط كل هذا الخراب، لم يتخل عن نقطة البياض داخله ولم ينحرف أو يختر طريق الإجرام الذي كان مهيأً حتما لدخوله، إذ شاء له الكاتب أن يفلت منه مرات عديدة وأن يخطئ الوجهة نحو الفنّ والحياة والحبّ، وكلما شهد انتكاسة يلوح له حجر السعادة ليذّكره بالخير فيه ..

رواية حجر السعادة مزجت ببراعة بين بعدين، فهي ذات ميسم كوميدي ساخر، لكنّ السخرية فيها اختيار فني موجع إلى حدّ بعيد لأنه يفتح على بُعد المأساة، ترصدها عين جارحة تغامر في تشريح أوجاع الإنسان العراقي خاصة والعربي عامة، فتكشف بجرأة عن العورات الفاقعة فيه، وتهتك حجب الصمت من قيعان المجتمع إلى سراديب المؤسسات وعتمة الحواري البائسة..

وغالبا ما تسير الأحداث فيها وتتصاعد بطريقة دراماتيكية، كلما احتدت أزمة البطل وتصاعدت وتيرتها وكلما توترت علاقاته ببقية الشخصيات، كما تتنامى كاشفة عن مواقف البطل مُجلية مشروعه في الخلاص. فهل يكون الخلاص من الداخل عبر التصالح مع الذات واخضاعها إلى محرار يضبط انفعالاتها؟ أم من الخارج بتعرية السواد والعتمة وتسليط مجازية العبارة وقوّتها البيانية، لكشف مظاهر العفن في السياسة والمجتمع والأخلاق؟

رواية حجر السعادة رواية جديرة بالقراءة المتمعنة وجديرة بالتتويج بجائزة البوكر.

*كاتبة من تونس