إسكافي الأندلس

ثقافة 2023/04/29
...

 لؤي حمزة عبّاس


كان المحّل ضيّقاً وطويلاً، مثل ممرٍّ بين جدارين، قادتّني إليه لوحة ضوئية، أعلى مدخله:

رجعت خطوتين لأدقّق في الحروف وأتأكد، رأيت، هذه المرّة، رجلاً بزي عسكري، أعلى الزاوية اليسرى، يصوّب سلاحه نحو هدف غير معلوم، وليس بعيداً عن قدمه ساعة يد زرقاء المينا، عقاربها، كالعادة، متوقفة على العاشرة وعشر دقائق، تقابلها، في الجانب الآخر، حقيبة يد رمادية مبقّعة الجلد، رميت نظري إلى آخر الممرّ المضاء بقوّة، في قاعه البعيد، كان الرجل الجالس إلى ماكنة الخياطة بصدريّته الرمادية، يؤكد سعادتي بالعثور على إسكافي لن يكلّفني الوصول إليه غير ثلث ساعة مشياً أو خمس دقائق في الباص، وأنسى الخوض في زحام العشّار للوصول إلى سوق الهرج، حيث الإسكافيون في محالّهم الضيّقة التي بالكاد تسع المكائن، أو يجلسون على الدّكك الإسمنتية العريضة وقد نصبوا فوقها عددهم، وعلّقوا خلفهم، على امتداد الجدار، كلَّ ما يُصنع من الجلد: يُخاط أو يُكبس أو يُلصق أو يُدقُّ.. 

سعادتي بالعثور على الإسكافي، وجه صريح من وجوه علاقتي القديمة غير المطمئنة بالحذاء، فلطالما مثّلت مناسبة شراء حذاء جديد إحدى مشقّات صباي، أنا الذي لا تقنعني الأحذية اللامعة المعروضة في الواجهات إلا بعد تفحّص طويل، حذاءً بعد حذاء. 

يلفت نظري، في العادة، حذاء نظيف في رجل أحدهم، طالب أو أستاذ أو ضيف أو أيٍّ أحد آخر تضعه المصادفة في مرمى نظري، قبل أن أتوجّه لسوق حنّا الشيخ وأقف أمام كلِّ واجهة من واجهات مَحال الأحذية في السوق المسقّف، بارد الهواء، في دورة لا تنتهي يقودني كلُّ محلٍ منها إلى سواه، وتأخذني الواجهات إلى واجهات، غالباً لا يقع اختياري على حذاء شبيه بما يشغلني، لكنني أسمع حذاءً يناديني، ويخلب لُبّي مثل كلِّ شيء، حي أو جامد، ينادي صاحبه من وراء زجاج، ويخلب لُبَّه.

قرّرت، اليوم، أن آخذ الحذاء إلى إسكافي الأندلس..

وضعته في كيس نايلون أسود، وقطعت المسافة بين الحكيمية، حيث أقيم، وسوق الجنينة، حيث المحل، على قدمي. 

لم يكن الحذاء قديماً مهترئاً، كما قد يتراءى لأحدنا، ولم يكن بحاجة لنعل خارجي أو داخلي، كان نعلاه على أفضل حال، الخارجي المطّاط، والداخلي الاسفنجي المحبّب. 

ما كان يُقلقني في الحذاء لونه البُني الباهت المحيّر، لا هو غامق بلون القهوة، ولا مشرق جليّ بلون الرطب أول الصيف، بسببه لم ألبسه إلا مرّات قليلة، وكنت ألمح أخاه، في قدمي صديقي أبي زياد، كلّما لبسه، متسائلاً، في أول الأمر، إن كان يطليه وأيَّ لون يختار؟

لكن حذاءه ظلَّ، طوال عام أو أكثر، بعيداً عن كلِّ طلاء، أسوة بحذائي..

كان حذاؤه يتهاوى، أمام ناظري، لبسةً وراء أخرى، حتى تشبّع جلده بالتراب، وصار لونه أقرب إلى لون جذع شجرة محروق منه إلى البُنّي الذي أُعجبنا به حالما رأيناه في مجمّع المودّة في الكرّادة، كنّا وقتها مبتهجين بشمس نهارات الشتاء البغدادي الرائقة، لكنني لم أرغب بأن يكون لحذائي المصير نفسه، وشغلتني مسألة تغيّر لونه وقلّلت من ارتدائي له، ولهذا عزمت على الذهاب به إلى الجنينة، بعد عثوري على إسكافي قريب، لأترك له تحديد لون الطلاء، وطلائه بيد خبيرة، والانتهاء، أخيراً، من قلق الحذاء.

سرت بين جداري الممرّ اللذين ثُبتتْ عليهما رفوف معدنية طويلة، صُفّت فوقها هدايا جصّيّة، وبنظر سريع رأيت فيلةً ونموراً، شعراء قدامى ومحدثين، ولاعبي سيرك، أنوفهم فاقعة الطلاء مثل وجناتهم، إلى جانب نسخ عديدة من ثور آشور المجنّح ذي الخمسة أقدام، وأسد بابل الذي بلا عينين، ومسلّة حمورابي السوداء، فضلاً عن آلات موسيقية مصنوعة من أسلاك معدنية صقيلة ولامعة.

ـ مساء الخير

قلت بهدوء، وأنا أضع الكيس على حافّة منضدة الماكنة، ناظراً لإبرتها التي تنزل وتصعد بسرعة خاطفة.

ـ أهلا، مساء النور

ولما طال انشغالي بالإبرة، قال:

ـ تفضّل..

نظرت لوجهه الشاب وعدت للحكاية، من أولها:

ـ عندي حذاء، اشتريته من الكرّادة 

معلومة لا داعي لها، قلت لنفسي، فردّ عليّ مترقّباً الأهم:

ـ نعم..

ـ محتاج صبغ

ـ تريد تغيّر لونه؟

استغربت لسؤاله، وقلت:

ـ لونه محيّر، وصار أكثر من سنة ما صابغه.

يبدو أنه فهم المراد، مدَّ يده، وهو يقول:

ـ انطيني إياه

فتحت عقدة الكيس متمهلاً، وكانت ملامح الإسكافي الجميل تملأ ذهني، وضعت الفردة اليمنى في يده، متسائلاً:

ـ أيَّ لون يناسبه، برأيك؟

وضع فردة الحذاء على طرف منضدة الماكنة، من جهته، بعد أن نظر مدقّقاً في جلدها، ثم استند إلى عكازين ليقوم، فزّزني مرأى العكازين المعدنيين بمقبضيهما البلاستيكيين، توجّه إلى رفٍّ قريب وهو يقول:

ـ عندي أكثر من لون معجون، واسفنجي، وسائل..

قلت، كأنني أتخفّف من ثقل:

ـ أيَّ لون مناسب..

فتح علبة دائرية صغيرة بمعجون بني غامق، وهو يقول:

ـ هذا النوع، تركي ممتاز

خشيت دكنة اللون وكثافته حالما رأيته، لكنني فضلّت أن أترك له حرية الاختيار، فاكتفيت بهزّ رأسي. عاد إلى كرسيّه مستنداً إلى عكازيه، وبأصبعه اغترف من الطلاء الكثيف ووضعه على الحذاء، ثم مسح أصبعه بطرف الحذاء وعاد ليغترف مرةً أخرى. كان القلق يملأ نفسي وأنا أرى المعجون على الجلد، سحب جرّار الماكنة وأخذ، من داخله، قطعة قماش ملوّثة بالأصباغ، وبدأ يدعك الطلاء في حركة دائرية، كان الجلد، مع حركة الأصبع، يفقد لونه ويتحوّل إلى الأسود، انتبه الشاب لتغيّر اللون، فتباطأ أصبعه، سحب الجرّار مرّةً أخرى وأخذ قطعة قماش نظيفة بللها بالماء، من قنينة بلاستيكية خلفه، في محاولة لمعالجة ما حدث. انسحبت إلى الممرّ كاتماً قلقي الذي بدأت أشعر تحوّله إلى غضب، وعدت إلى رفوف الهدايا، أتفحّصها عن قرب بتأنٍ هذه المرّة، وهالني أن أرى أحد لاعبي السيرك مثلوم الأذن، انتبهت ودققت بها أكثر  فرأيتها جميعاً تعاني نقصاً ما، كسرةً أو ثلماً أو خدشاً أو اعوجاجاً، وسمعت نداءاتها في ضوء الممرّ، نداءات كائنات صغيرة غير مكتملة..