المتوالية القصصيَّة.. ظاهرة شكليَّة أم تنويع ثيمي؟

ثقافة 2019/04/19
...

د.ثائر العذاري
في العمل الإبداعي الأصيل لا يمكن الفصل بين الشكل والموضوع، فالشكل إن لم يكن ذا دلالة تخدم الموضوع وتتسق معه يصبح ضربا من العبث. ومع ذلك تحاول الدراسات الأدبية الفصل بينهما قسريا لأغراض الدراسة والتصنيف، لأن المعول في تحديد جنس العمل الأدبي يقوم أساسا على السمات الشكلية، بل إن العمل الأدبي إنما اكتسب أدبيته من الشكل لا الموضوع، أو كما يقول (فريدريك جيمسون):”إنّ من الخطأ أن نتصوّر أنّ موضوعات قصص (همنجواي)
، مثلا، هي أشياء من مثل الشجاعة والحب والموت، لأن الواقع إن موضوعاتها الأعمق، ببساطة، هي كتابة أنماط معينة من الجمل، وتجربة أسلوب محدد. هذه في الحقيقة، هي التجربة الأكثر صلابة لعمل
 الكاتب”.
تتراجع صعوبة الفصل هذه كثيرا حين نتحدث عن المتوالية القصصية، وكان غريبا أن يكتب ناقد (عبقري) وهو يتحدث عن المتوالية القصصية، يزدري نقاد زمانه ويتبرّم بجهلهم: “وواحدة من آفات النقد الأدبي عندنا أن مسألة النوع شكلا ومضمونا لا تأخذ عند بعض النقاد إلا اهتماما سطحيا
، فلا يفرقون بين مبنى الكتابة ومعناها
، ويعدون الاشتغال على المضامين هو اشتغال على الأشكال. ومن ثم يعطون للقصاصين شرعية ابتداعهم لتسميات لأعمالهم السردية…”، لكن الواضح أن (عبقريته) لم تكن معه حين كتب هذه العبارة، فهي تكشف أنه لا يميز بين الشكل 
والمضمون.
لقد كان الشكل، تحديدا، هو ما دفع النقاد الأوربيين والأميركان (الجهلة بحسب نظرية صاحبنا) إلى عدِّ المتوالية القصصية جنسا سرديا قائما برأسه. ذلك أنها بنية شكلية قبل كل شيء، تختلف عن بنية الرواية والمجموعة القصصية.
إن ما يكسب المتوالية القصصية هذه الصفة هو أن القصص المكونة لها كتبت لتكون كتابا، فهي تشترك بعناصر مثل الراوي واللغة وزاوية النظر والمكان والزمان، فإذا كانت هذه عناصر موضوعية فهذا يعني أن علينا أن نكف عن الكتابة ريثما ينشر (العبقري) تعريفه الجديد للشكل وعناصره.
ولكي تتضح الفكرة أكثر اقدم للقارئ الكريم مراجعة موجزة لمتواليتين قصصيتين جنسهما كاتباهما ابتداء من الغلاف.
أما الأولى فهي (أمواج الليالي) للقاص (إدوارد الخراط) التي صدرت عام 1991، وأثبت كاتبها على غلافها عبارة (متتالية قصصية)، وأحسب أنها أول كتاب عربي كتبت هذه العبارة على 
غلافه.
تتألف (أمواج الليالي) من تسع قصص أولها (سحب ملتبسة) وآخرها (شجرة مضطربة الثمر)، كل قصة يمكن أن تقرأ وحدها، لكن قراءتها جميعا ستعطي دلالات أخرى تقرّبها من الرواية، ولم تنتج تلك الدلالات إلا عبر اشتراك القصص بعناصر الشكل، فالقصص كلها يرويها الراوي المتكلّم نفسه، وفي كل قصة يعرض نتفا من تجربة حبه الفاشلة، وتشترك القصص في أنها كلها كتبت بأسلوب (المونولوج)، وتشترك بالمكان، فكلها مبنية على تأملات الراوي لحواري القاهرة الشعبية، وحياة الناس البسطاء فيها، وتشترك بالزمن، فكلها تدور أحداثها في الستينيات من القرن الماضي، وأخيرا تشترك باللغة، فهي تعمد إلى الجمل القصيرة التي بناها الكاتب بطريقة توحي بقلقه وشعوره بالوحدة. 
وكما يرى القارئ الكريم أن هذه كلها عناصر شكلية.
وأما المتوالية القصصية الثانية فهي (حفلة السيدة دالاوي، لفيرجينيا وولف) التي ألفتها الكاتبة بالتزامن مع روايتها الشهيرة (السيدة دالاوي) في عشرينيات القرن الماضي، لكنها لم تنشر حتى اكتشفتها (ستيلا ماكنيكول) المتخصصة بأدب وولف ونشرتها عام 1979 مكتوب تحت عنوانها (متوالية 
قصصية).
يمكن ان تعد هذه المتوالية القصصية مثالا لتشابك الشكل والمضمون حتى يصعب الفصل بينهما، فالقصص السبعة المؤلفة للمتوالية ابتداء من (السيدة دالاوي في شارع بوند) وانتهاء بالقصة الأخيرة التي عنونتها (بالإجمال) كلها تتحدث عن عوالم (السيدة دالاوي) قبل المرحلة الزمنية التي تتحدث عنها الرواية
، وخاصة تلك الأيام التي كانت تعد فيها للحفلة. لكن هذه التجربة الفريدة لوولف في عمقها تجربة شكلية، فالقصص مكتوبة بلغة متشابهة تتسم بالهدوء 
والسهولة.
كما تؤدي القصص وظيفة فنية مهمة، فهي في الحقيقة تبني شخصية السيدة دالاوي، بحيث إذا قرأناها قبل قراءة الرواية سيكون سلوك هذه الشخصية الرئيسة وتفكيرها غير غريبين علينا، فضلا عن أن هناك قصة هي الرابعة التي عنوانها (الأسلاف) ترسم للقارئ عالم دالاوي بعيون أخرى غير عينيها هي، ففي هذه القصة تتحدث جدتها عن سلوكها وبيتها وشذرات من طفولتها. 
إن بناء الشخصية قضية شكلية لا موضوعية ومثلها رسم المكان ووصف ما تشتريه دالاوي من ملابس وأزهار ومستلزمات أخرى استعدادا للحفلة.
إن المتوالية القصصية لعب بالشكل لا الموضوع، فهي جنس أدبي هجين كما يسميه بعض النقاد، جمع بين سمة الوحدة التي تسم الرواية وسمة التعدد التي تسم المجموعة القصصية، فأنتج هذا الجمع جنسا أدبيا جديدا يتيح فسحة كبيرة من الإبداع والفتنة.