نصير فليح
المتابع للأحداث يستطيع أن يرى تصعيداً في سياسة الولايات المتحدة تجاه مخالفيها أو غير المتفقين معها من الدول والجماعات المختلفة على امتداد العالم. فهل هذا التصعيد مجرد تعبير عن سياسة الادارة الاميركية الحالية التي يرفضها قسم كبير من الأميركيين انفسهم، أم انه نتاج لأزمة عميقة تؤشر بداية عصر جديد لا تكون فيه الولايات المتحدة القوة الكبرى الوحيدة، بل واحدة منها فقط؟
لعل الجانبين لهما درجة من الصحة. فادارة الرئيس ترامب اثارت جدلاً داخل الولايات المتحدة نفسها لم تثره ربما أية ادارة اخرى بهذا المستوى. والشارع الأميركي نفسه، كما هو الحال مع اصوات الناخبين والنخب السياسية، له تعارضات حادة بهذا الشأن. وهي لما تزل مستمرة ومتصاعدة. لكن نظرة اخرى الى سياسة الولايات المتحدة الخارجية في مختلف الملفات الساخنة على امتداد العالم، تفسر الكثير من الاجابة الثانية ايضاً، اي المتعلقة بتراجع القدرة على المنافسة الطبيعية المعتادة، لا سيما في المجال الاقتصادي، وما يرتبط به بالضرورة من تصعيدات سياسية وحتى عسكرية.
فالسياسة الخارجية في ملفات روسيا، الصين، كوريا الشمالية، الشرق الاوسط، فنزويلا، وهي مجموعة الملفات الخارجية الأبرز التي تواجه الولايات المتحدة حالياً على المستوى العالمي، تؤشر الى هذه النتيجة. بدءاً من زيادة العقوبات والضغط على روسيا، والانسحاب من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، ثم العقوبات الاقتصادية المتصاعدة على الصين، والانحياز غير المسبوق لاسرائيل، لا سيما في ملفات القدس والجولان، والموقف الأكثر تشدداً من ايران بما في ذلك الانسحاب من الاتفاق النووي معها، والنتائج العقيمة للمباحثات الاميركية-الكورية بخصوص السلاح النووي الكوري الشمالي، وصولا الى ازمة فنزويلا وما يقترن بها من تصعيد للتوتر بوجه خاص مع روسيا، ومؤخراً مع الصين ايضاً.
واذا ما لاحظنا عدداً من التصريحات والمواقف الاخيرة، فإن المؤشرات تشير الى مزيد من التصعيد اذا ما استمرت الاوضاع على مسارها الحالي. فقد صرح رئيس كوريا الشمالية انه يمهل الولايات المتحدة الى نهاية العام الحالي "لابداء مزيد من المرونة" وهو ما ردت عليه الولايات المتحدة بسرعة بانها لن تقدم أية "تنازلات". ثم التصعيد مع الصين على الساحة الفنزويلية (بعد روسيا)، حيث لم يتأخر الرد الصيني ايضاً على تصريحات بومبيو وزير الخارجية الاميركي بأن الصين تطيل أمد الازمة في فنزويلا، وهو ما وصفته الصين بانها "اكاذيب" لا أكثر.
إذا ما تحول مركز الصراع العالمي الى منطقة بعيدة عن منطقتنا واقليمنا في الشرق الاوسط، فقد يؤدي ذلك الى نوع من تأجيل الحسم فيها. فالأطراف المتصارعة لا تستطيع عادة فتح اكثر من جبهة عسكرية في وقت واحد، وحتى ذلك الحين، تظل الانتخابات الاميركية المقبلة حدثاً رئيساً ستكون له تداعياته على مختلف ارجاء العالم، لمزيد من التصعيد والتوتر، أو شيء من الانفراج على الأقل.