سوف تكون للتاريخ وقفة طويلة أمام مرحلة ما بعد 2003 في العراق، هذه المرحلة التي فجرت كل الأسئلة الخطيرة دفعة واحدة، أسئلة إعادة انتاج علاقة الانسان العراقي بمفاهيم تتعلق بالدين والطائفة والوطن والانتما
وشكلت عبوراً إلى مرحلة ذات خطاب مختلف ومغاير تماماً لما قبل 2003، وخلقت هامشاً مأزوماً بهوية المثقف
وهواجسه، في اللحظة التي جددت الدعوة لاستعادة فاعليته وحضوره في دائرة الضوء، بلا مصدات ولا جدران، في مواجهة أنساق الواقع وتمظهراته، بعيداً عن الحواضن الأيديولوجية والحزبية والطائفية، فوجوده لا يأتي بمعزلٍ عن اللحظة التاريخية التي يعيشها، بل على أساسها تتحدد خصائصه التي يجب أن يحافظ عليها أو المسلمات التي ينقدها، في إطار رؤية واعية لطبيعة القضايا الجدلية
والحلول.
تعتبر سنة 2003 حداً فاصلاً بين مرحلتين في العراق، ففي استقراء سريع لمعظم ما كُتب ويُكتب الآن يُعلن بقوة أن مرحلة جديدة قد تشكلت ملامحها في حياة الانسان العراقي، مرحلة أدخلته في صراع مع الذات مقارناً وجوده فيما بين المرحلتين، قبل 2003 وبعدها،
وهو يحاول هضم ما يحدث له من تسارع في الخطى أشبه ما تكون بحرق المراحل في شتى مناحي الحياة، وتقلبات فُرضت عليه فرضاً وما عليه الا أن يساير الوضع الاجتماعي والسياسي العام
في البلد، في ظل غياب رؤية صادقة منحازة للوطن والمواطن والهوية
الوطنية، هذا الثلاثي الذي ضاع في خضم الصراع الديني الطائفي، الذي بات لا يُذكر الا في حضور المذهب والطائفة، وكأن الدين أو المذهب أصبح حاضنة الوطنية في سياقات العمل السياسي في عراق ما بعد
2003.
إنَّ ما يبدو من فوهة بركان المأساة العراقية، وتلال الجثث التي تتراكم في كل مكان والفساد والتخريب،
مدعاة لأن يقول المثقف كلمته بصورة مباشرة ودون مواربة إزاء الأنساق المهيمنة سياسياً ودينياً واجتماعياً، بوصفه كائناً قلقاً ومقلقاً، لا يركنُ إلى البديهيات كمسلمات في حركة المجتمع الذي يعيشُ فيه،
بل يكون قادراً باستمرار على صناعة ثقافة الاحتجاج والتمرد على الأنساق المهيمنة، وإنتاج خطاب نقدي يواجه ما انتجته الجماعات السياسية في متن السلطة من أنماط متردية وتشويه بالغ، فالمثقف ليس داعية مُسالمة ولا داعية اتفاق في الآراء،
لكنه، بحسب ادوارد سعيد، يُخاطر بكيانه كله لاتخاذ موقف حساس، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات المهذبة والاتفاق مع كل ما يقوله وما يفعله أصحاب السلطة وذوو الأفكار
التقليدية.
ولا يقتصر رفض المثقف على الرفض السلبي، بل يتضمن الاستعداد للإعلان عن رفضه على الملأ، ليكون مساهماً رئيساً في القضايا الجدلية التي يخوضها
المجتمع.
كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يعتبر أنَّ المثقف هو ذاك الفرد الذي يسعى للقيام بواجبات لم يكلفه بها أحد، إذ ان المثقف المترابط مع قضايا الناس يشكل الضمير والوجدان المجتمعي، لكنه ضمير يشقى في سعيه الى الوصول
لغاياته. حيث يتحول الوعي إلى فعل مضنٍ ومكابدة وشقاء، وقد يكون دافعاً للاغتراب وسبباً للعزلة، فامتلاك الوعي في بلداننا يكون سبباً كافياً للقلق والتوتر، وقد يتحول إلى ذريعة للاعتقال ومسوغ للموت في
بعض الحالات.