{قصة الحطاب}.. نبرة ساخرة وخروجٌ عن السائد

ثقافة 2023/04/30
...

  عبد الكريم قادري

في أول تجاربه الإخراجية في الأفلام الروائية الطويلة، ذهب المخرج الفنلندي ميكو مولولاهتي في عمله "قصة الحطّاب" (The Woodcutter Story) 97 دقيقة، 2022)، صوب السينما الساخرة المشبعة بالرمزيات، إذ طرح في هذا العمل المختلف، العديد من الأسئلة حول ماهية الحياة وجدوى سر الوجود،

 أسئلة ذكية عن عالم يتجه نحو الهاوية بخطى متسارعة، انطلاقاً من سلبيات أفراد المجتمع الذين أصبحوا بلا أخلاق أو ضمائر، ملتصقين بالخيانات والجرائم والحقد والكراهية، وقد تم استعراض هذه النقائص أو السلبيات المجتمعية عن طريق شخصية الفيلم الرئيسة بيبي (جاركو لاتي)، وهو رجل صادق ومتزن ووفي وصاحب مبادئ، لكن هذه المعطيات لم تعد تجدي في ظل الحوادث والمشكلات المتتالية، أين تم توقيف مصنع الخشب في القرية الجبلية المثلجة التي يقطنونها، وقد كان هذا المصنع هو المحرك الأساسي لها، أو ربما تواجد القرية كان مرتبطاً بها، من هنا تبدأ الكثير من الوقائع في الانكشاف، ومعظمها غرائبية وميتافيزيقية، لا يوجد أي تفسير منطقي أو واقعي لها، وبالتالي بدأت تلك القرية المثالية المفعمة بالحياة تنهار أمامه رويدا رويدا، حتى أنه فقد زوجته واحترق بيته وتوفي العديد من أصدقائه وصديقاته، بعد سلسلة الخيانات العاطفية التي قادت إلى ذلك المصير، ليجد بيبي نفسه مشرداً برفقة ابنه الوحيد، يعمل في ورشة بناء وينام مع العمال في بيت جماعي، وفي الوقت نفسه بدأ هذا الطفل يحضر حلقات ينشطها وسيط روحي، وقد استهوى الأمر بداية بيبي، ثم تبيّن لاحقاً بأن هذا الوسيط مجرد دجال ومتلاعب بالحقائق، يستغل حاجة الناس للتواصل مع الموتى الذين يبحثون عمن يكسر وحدتهم وهدم تمثال الفقد الذي أرهقهم، وفي الوقت نفسه هناك من وجد عند هذا الوسيط أجوبة للأسئلة الوجودية التي لم يعثر على إجابة لها، لكن في الأخير تبين بأن الكل كانوا على خطأ، لأن الحقيقية لا يمكن أن تقترب من الدجل، لهذا ينهار هذا العالم الفلسفي من جديد.

فيلم "قصة الحطاب" تجربة إخراجية شجاعة ومختلفة وخارجة عن السائد، حاول فيها المخرج وكاتب السيناريو ميكو مولولاهتي أن يقول كلمته بصوت مسموع، بعيداً عما هو متداول ومتطرق له في السينما العالمية، وقد اختار هذا القالب الساخر والسوداوي والغرائبي ليعبر عن منطلقاته الفكرية والفلسفية ونظرته للحياة، بطريقة فيها الكثير من الرمزية، مفعمة ومشحونة بالعواطف غير التقليدية، حتى وإن غاب المنطلق الذي يصوغ الأحداث ويربطها بطريقة منطقية، لكن هذا الغياب لم يؤثر على توجه الفيلم وجمالياته، لأن انطلاقته الأساسية معتمدة على خلخلة السائد والسخرية اللاذعة من المسلمات التي يحتفظ بها الإنسان، لأنه سيقف على جملة من الانهيارات الأخلاقية بمجرد انطلاق الشرارة التي  تصنع الفارق، وقد كانت هذه الشرارة حسب  فيلم "قصة الحطاب" قد اشتعلت بمجرد شراء مصنع الحطاب وتسريح العامل، لتبدأ بعدها مراحل السقوط المتعددة، أخلاقياً، وإنسانياً، حتى أن هناك سقوط في عملية الفهم الكبرى التي تقود عادة إلى ما هو منطقي وعادي، ليكون هذا الفيلم في مجمله عبارة عن فسيفساء مشكلة من العديد من المفاهيم والنظم التي تحدد معالم طريق كل فرد، وفقاً لخوارزمية حياتية يصعب تحدي طرقها بسهولة.

شكّل التصوير السينمائي الذي قام به أرسين سركيسيانتس منعرجاً حاسماً في الفيلم، من خلال تطويع الموجودات الطبيعية لصالح موضوع الفيلم، خاصة البياض الممتد الذي عكسته الثلوج التي غطت الشوارع والأشجار والمنازل، وقد انعكس هذا الجو البارد في برودة العلاقات بين أفراد المنطقة، كما عملت الإضاءة على خلق دفء بصري، ولد جماليات متعددة في العمل، حتى أن الممثلين استطاعوا أن يندمجوا بشكل كبير في تفاصيل وموضوع الفيلم، من خلال ملامحهم القوية وحركاتهم الصامتة في معظمها وحواراتهم المقتضبة، لكن هذا لا يعني بأنه لا توجد عمليات تواصل، بل كانت موجودة وقوية، عكستها اللغة السينمائية وعملية المونتاج والبناء والمشاهد الشاعرية المعبرة.

فيلم "قصة الحطّاب" عمل سينمائي معقول وموزون، حرّك سينما النوع وخرج عن سكة السائد، دافع عن الإنسان وتقلباته، ووضع المتلقي في صورة ما يحدث في حالة تحرك شيئاً ما وإن كان بسيطاً، انطلاقاً من فكرة "أثر الفراشة"، وقد شارك الفيلم في العديد من المهرجانات السينمائية، أبرزها تتويجه في قسم "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائي، كما شارك في المسابقة الدولية بالدورة الـ 44 (13 ـ 22 تشرين الثاني 2022) لـ "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي".

نذكر بأن المخرج ميكو مولولاهتي حاصل على شهادة الماجستير وإخراج الأفلام من مدرسة السينما بهلنسكي، كما نشر العديد من المجاميع الشعرية، وقد انعكست هذه الخاصية في العديد من نواحي الفيلم، كما سبق له وأن أخرج العديد من الأفلام الروائية القصيرة التي نالت جوائز ومشاركات مهمة، من بينها فيلم "the tiger" الذي شارك في مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي، إضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى، سواء الأدبية أو الفنية.