خيانات عديدة في {الإفطار الأخير}

ثقافة 2023/04/30
...

  باسم سليمان


تحيل جملة (الإفطار الأخير) إلى أعظم الخيانات في التاريخ، وهي (العشاء الأخير)، إذ سلّم يهوذا المسيح بعد أن قبّله. يستيقظ الخياط سامي (عبد المنعم عمايري) ليجد زوجته رندة (كندة حنا) قد أعدّت له فطورًا ملكيًا، لتخبره بعدها، بأنها قد حدست بأن هذا يومها الأخير، وتطلب منه أن يتزوج من جمانة بعد وفاتها، لأنها تحبه جدًا، فيجيبها سامي، مستغربًا طرحها، بأنه لا يحب، هذه الجمانة. عبر هذه المفارقة يبتدئ المخرج السوري عبد اللطيف فيلمه، حيث تتحقّق نبوءة رندة وتموت نتيجة سقوط قذيفة هاون. تجري أحداث الفيلم في حارة شامية، حيث افتتح سامي محلًا للخياطة، كان مقصدًا لرجالات الدولة المهووسين بالبدلات الرسمية، فيلبي سامي طلباتهم بالحضور إلى مكاتبهم، ما أمّن له علاقات جيدة مع السلطة، سمحت له بخدمة أهل حيّه، لكنّه يفقد بهذه العلاقة الكثير من حريته، ففي عزاء زوجته كان يجب أن يفتح محلّه ليكمل خياطة بدلة رسمية لأحد المسؤولين.

ترتبط مهنة سامي بقصة (خياط الملك) الذي نسج له ثوبًا لا يُرى، إلى أن صرخ أحد الأطفال بأن الملك عار. لكن سامي يخيط لرجالات السلطة بدلات رائعة، ليظهروا فيها إلى العلن، وكأن البلاد ليست فيها حرب. فسامي عبر إظهاره رجالات السلطة، بأبهى حلّة، خان قصة الخيّاط الذي فضح تهافت الملك.  أمام هذا الضغط الوجودي يعرض عليه صديقه؛ مساعد أحد المسؤولين، أن ينزل ضيفًا لدى أبيه في جبال الساحل السوري. وهناك يتعرّف على الرجل العجوز الذي يلعب دوره المخرج والذي فقد زوجته مؤخرًا، ليجد فيه رجلًا أنتج تأقلمًا ساخرًا من الحياة؛ أسوأ من وحدته، إذ هجره أولاده إلى حيواتهم وزوجته إلى الآخرة، بينما تتساقط صواريخ الإرهابيين على حقل زيتونه، فيواجهها بلامبالاة شجاعة، تثير استغراب سامي.                                                                                                                                    يعود سامي إلى دمشق ويتزوج من جمانة، وفي ليلة دخلته يتخلّص من صورة زوجته المتوفّاة المعلّقة على الحائط بالرغم من اعتراض شبحها. وفي خضم مشهد حميمي مع زوجته الجديدة يتصل فيه أحد المسؤولين، لأخذ مقاسات بدلات جديدة لأحد أصدقائه. يلبي سامي طلبه من دون اعتراض على الرغم من دهشة زوجته جمانة، مع أنها الليلة الأولى لهما معًا. وفي صبيحة زواجهما على إفطار ملوكي، يعدها بأنه سيترك مهنة الخياطة ليتفرّغ لحياتهما الجديدة.

رأينا وجود خيانات عديدة ترتكب لربما سهوًا أو قصدًا، عن حب أو كره، في سياق أحداث الفيلم، فرندة لا تكتفي بموتها، بل كانت كما أوضح شبحها عاقرًا، لم تمنح سامي ولدًا، لكنها تحب سامي بجنون وهو يحبها بجنون مضحيًا برغبته أن يكون أبًا. كذلك سامي يخون مهنة الخياطة عندما أوهم المسؤولين بأن ثياب البلاد غير ممزقة، بل جديدة كحال بدلاتهم الرسمية ويخون صديقه الشاعر بأن يستمرئ كسله وتبطله من دون إيقاظه، بأن الكلمة حتى تكون شعرية يجب أن ترتبط بالفعل. ويخان سامي من أبي فتحي الذي طلب منه واسطة لإخراج أخيه من قبضة الأمن، مع أنه لا ينفك ينعت سامي، بأنه كلب السلطة. وعندما يرفض سامي ذلك بعد معرفته بأن أخا أبي فتحي كان إرهابيًا. ينتقم منه أبو فتحي ويلغم سيارته التي تنفجر منهية حياة سامي في اليوم الذي قرّر فيه أن يغيّر تاريخه.

إن السؤال الذي يطرحه الفيلم، وبشكل مضمر؛ هل كان سامي الخائن الأكبر بحق نفسه؟ لأنه كان الزوج الصالح لزوجته، والمواطن المطيع لدولته، والجار الكريم لأهل حارته، والصديق المناسب لشاعر اختل ميزانه! وعندما قرّر أن يحتجّ على سيرة حياته السابقة، ويبدأ حياة جديدة مع جمانة، تم اغتياله من قبل الإرهاب. هناك مشهد في الفيلم يساعد فيه سامي شابًا بإطلاق سراحه، بعد أن اعتقلته قوى الأمن على أحد الحواجز التي أوجدتها الحرب، حيث يبدو الشاب ممتعضًا ورافضًا لمسعى سامي!.

كان هناك حياة حقيقية تنتظر سامي مع جمانة، لو لم يتم اغتياله، والتي هرعت بثوب النوم، تحمل دلو ماء تساعد فيه أهل الحي بإخماد النار ولربما إنقاذ سامي. ينتهي الفيلم بمشهد بلون نيغاتيفي يجمع سامي ورندة تعلوهما لمبة كهربائية وخلفها أبنية كأنها مهدمة، مجتمعان على طاولة فيها كؤوس الخمر دلالة على أنهما في الآخرة؛ يتناولان العشاء (الأخير)، محتفلين بعودتهما إلى بعضهما. وبهذا المشهد تستكمل الخيانات في الفيلم. 

أنشأ عبد اللطيف سردية فيلمه بخيانة مقصودة لواقع الحرب السورية إلى حدِّ ما، كي لا يقع قدر المستطاع بشرك التجاذبات السياسية، فأجمل ما في الفيلم كان المسكوت عنه. وذلك حتى يكون قادرًا على الإفصاح عن الإشارات والرموز، ومن ثم ترك تأويلها لكل مشاهد حسب زاوية رؤيته، عبر كاميرا لطيفة البؤرة، وسيناريو حسّاس للمفارقات التي امتلأت بها حياة سامي، وكل ذلك يسبح في موسيقى هادئة.

"الإفطار الأخير" فيلم للمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد من إنتاج عام 2021 حائز على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان الإسكندرية السينمائي دورة 37 لعام 2021. تمثيل عبد المنعم عمايري وكندة حنا.