الفنان سعد علي.. الحرية المطلقة في التأمل والحلم

ثقافة 2023/04/30
...

 جمال العتّابي


احتفت بلدية (جيبا) إحدى مقاطعات مدينة فالنسيا الاسبانيَّة، بمعرضٍ أقامته للفنان العراقي «سعد علي» المقيم هناك منذ عقودٍ من الزمن، وبعنوان «جماليات الهدوء في مرسم» للمدة من 14 نيسان لغاية 19 منه، المعرض ضمَّ 40 عملاً فنياً بقياسات مختلفة، بمادتي الزيت والاكريليك، رافق حفل الافتتاح عرضٌ موسيقي وغنائي قدمته أربع فتيات من فرقة أوبرا المدينة، كما تخللته جلسة حوارية بين الفنان وعددٍ من النقاد التشكيليين الاسبان، الذين واكبوا تجربته الفنية، وقدّموا دراسات عنها.

ما المعنى الكامن الذي يحاول الفنان الإفصاح عنه في عنوان معرضه الجديد؟ بعد أنْ قدّم مشاريعه الفنية السابقة «صندوق الدنيا، أبواب الفرج، حديقة الحياة»، للإجابة عن هذا السؤال يجدر القول: إنَّ البيئة الجديدة المحيطة بالفنان، بصمت المساحات الشاسعة، وتناقضها الغريب والساحر، أوحت إليه أنْ ينقلَ هذا المشهد كعنوانٍ للمعرض، وموضوعٍ في اللوحة، هذا المشهد من دون شك عملٌ دراميٌ مثير، غير أنه في الوقت نفسه لا يكفي لتحقيق عملٍ فني إبداعي ممزوج بحرارة الإنسان، وقلقه.

الفنان في مرسمه يطلُّ على نوافذ واسعة، تسمح لضوء الشمس أنْ يتحولَ الى عنصرٍ مكمّلٍ في بناء اللوحة، مرتفعات وغابات شديدة الخضرة، داكنة، سهول فسيحة تلمع تحت وهج الشمس، والأخرى تطلُّ على سفوحٍ وحقولٍ تمتدُّ نحو الوديان، يقطف ثمارها صبح مساء.

لا يزال يمارس سعد تواصلاته الوجدانيَّة مع عمله الفني، كما لو كان يمارس طقساً مقدساً من طقوس الحياة، لذا جاء اختيار عنوان المعرض منسجماً مع هذا الطقس اليومي، في مرسمه الذي هيأ له كل مستلزمات التفرغ، ومنح أسلوبه صفاء التوجه الكامل لروح الفن.

لعلَّ تلك البيئة أوحت له أنْ يتوقف عند سحرها، فوجد نفسه مشدوداً بقوة فعل ديناميَّة شديدة لعالمٍ محيطٍ به، يمنحه حرية مطلقة في التأمل والحلم والحوار مع الذات، ومع الأشياء من حوله، للتعبير عن ذاته، وابتهاجه الأعمق بما ينجز، حتى يبدو وكأنه يمارس هوايته من دون قيد، بانسيابيَّة الهاوي على هواه، برغم تجارب السنين الطويلة في الرسم، فهو (سعيد) بنفسه، مثل كل الخالدين، وكما يقول «ديلاكروا» في رسالته الى جورج صاند*: «سأظل أعمل حتى ساعة الاحتضار» ذلك لأنَّ القوانين العليا في الفن لا تتيح فرصة اللعب بالخواص الجوهرية للفن، وما يحمله الفنان من عذابٍ أليمٍ خلال مخاضات الإبداع، لا يعادله شيء في الوجود إلا بالوصول الى نقطة الخلاص المبهج: الولادة المبدعة للعمل الفني الخالد.

كيف لنا أنْ نضع اشتراطاتنا لفهم أعمال سعد علي، الذي راح بعيداً من مدينته الديوانية الى بلد سلفادور دالي، ولوركا، والجورنيكا، ومصارعة الثيران، وجنون مشجعي كرة القدم؟

فبرغم الفرار، فإنَّه لا يستفيق من غيبة الحلم الذي يظل يلازمه، مشدوداً لأزمنته الأولى، منتعشاً بأريج تراب تراثه العميق، بمذاقاته الفطريَّة، الحكايات والأساطير، الماء والطين، الموروث الرافديني، رذاذ طلع النخيل المتعلق بأهدابه، الجذور الممتدة عميقاً في سهوب مستوطنات ما قبل التاريخ، أبواب البساتين التي تنفتح تلقائياً مع ندى الفجر، حيثما الشمس غافية، عالم من الشبابيك والأبواب والقباب والبيوت والأضرحة والوجوه، وقصص وأشعار للحب، عالم من الألوان يستدعيه سعد علي، يستحضر كل مخيلته لهذا الفردوس كي تفيض اللوحة بالنضارة والنعومة والإغراء، والوجوه بخطوطٍ لينة ورقيقة، عذبة الامتلاء.

لا يزال سعد «عوداً طرياً» في رحلة البحث عن مساره الفني، مفتوناً بطاقته الإبداعيَّة، ومهارته الفنيَّة، بما مخزون في أعماقه من تجارب الفن التشكيلي العالمي، واعياً بانتقالاته في الأسلوب والموضوع، لا تغادره مدينته الأولى التي شهدت فتوته الفنيَّة والإشارة الأولى المعلنة عن موهبة ستأتي، ولعلَّ سعد أحد الفنانين العراقيين القلائل الذين استطاعوا أنْ يحققوا حضورهم التشكيلي في المجتمع الأوروبي، وهي حالة نادرة لم ينلها فنانون كبار، ذلك أنه أبدع هويته من خلال أسلوبه الخاص، مراعياً بذكاء ذائقة الجمهور الغربي، ملبياً حاجاته البصريَّة، للأجواء الشرقيَّة الحلميَّة، والفضاءات المفتوحة بالألوان الزاهية التي تحيله الى عالم ألف ليلة وليلة، محرراً من القياسات والمسافات، ينتقل إليهم، ويديم حياته بينهم، فشكل بذلك إضافة جديدة لحركة التشكيل العراقيَّة، تتطلب باعتقادنا وقفة تأملية عميقة تبدأ بالعصر وتنتهي بذات الإنسان الفنان.

ومع أنَّ النظرة العابرة لايمكن أنْ تستقصي كل أبعاد أعمال الفنان سعد، كما أنَّها لا تستطيع أنْ تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها، إلا أنَّها تستطيع أنْ تؤكد حقيقة واحدة، وهي أنَّ الفنان لم يبتعد عن منظوره الروحي، ولا نوازعه الإنسانية الصافية، بل أراد التعبير عنهما بقدرٍ وافٍ من المشاعر الطازجة، وقد أوفى بذلك.

يمنح سعد علي تشكيلاته قدرة التحليق والالتحام، عبر طاقة تعبيريَّة مكثفة، لتقيم حواراً بين سطح اللوحة الخارجي، ونظر المتلقي، وعمد الى تكرار ثنائيَّة المرأة والرجل في أكثر من عمل، بعيونٍ تتسع نحو السماء، وأخرى مخفية، عيون الجسد، وعيون الخيال، والبصيرة التي ترى ما وراء الظواهر، ولكي نرى الأشكال بوضوح، بفهمٍ وعاطفة، علينا أنْ نمرّن العين الأولى على النظر الى الأشياء، ونساعد الأخرى على الغوص فيها وراء المنظورات.

قد تفيض التجربة، فتلامس حدود المألوف، أو تتعداه الى مواطن الكشف، بهذه الحقائق يقودنا سعد الى النظر والتأمل في عالمٍ مفتوحٍ لا نهائي، تنبسط على مساحاته الوجوه الشائهة، والقبل الساخنة، والعناق الأبدي لكائنات تمتد أطرافها وأناملها بحركات رشيقة نحو السماء، أحسب أنَّ دهشة اللوحة تكتمل بالتنوع اللوني الزاهي، ووجه المرأة الطاغي على التفاصيل الأخرى، والجرأة في الأداء والتحوير، واكتساب ملامح الشخصيات الخاصة بالفنان.

ما من شيء يتموضع في هذه الكتل الحميمة، حتى الحيوانات المدجنة في أعمال سعد تبدو أليفة وادعة تتجاسد فنياً مع حالة الاسترجاع الزمني، وتفرض وجودها عند البشر، بل تبدو معادلاً لحنان الطبيعة، ووجوداً يتصادى مع التذكارات. حقيقيَّة هي الأشجار المثقلة بالطيور والأثمار، بالعناقيد ولآلئ الوهم، لكنها تظل مرسومة بريشة التوق للمجهول، فلا تمتلكها اللحظات العابرة، ولا يمتد لها حصار الأزمنة، تتوهج آناً وتنطفئ تارة أخرى، فالرحلة تبدأ من هنا، حيث يتنفس جسد العالم كل الظلمات المحبوسة وراء الأقفاص.

كل هذه الرؤى الفضائيَّة الجميلة، تعيش مأسورة في جنائن (سعد)، في إيناس حدائقه، يحيا آشور، وگلگامش، وعلى ضفاف أنهارها الصغيرة تخفق الريشات (الواسطية)، حيث تولد (فينوس) الشرق، من لهب الإبداع والتأمل.

* جورج صاند (1804 - 1876) اسم مستعار لروائيَّة فرنسيَّة

ديلاكروا (1798 - 1863) فنان من رواد الرومانسيَّة الفرنسيَّة