مراسلات ماري بونابرت وسيغموند فرويد

ثقافة 2023/04/30
...

 عدوية الهلالي 

    أثار نشر المراسلات بين ماري بونابرت وسيغموند فرويد عن دار فلاماريون للنشر، والتي تملأ مجلدا يزيد عن ألف صفحة بعنوان (ماري بونابرت وسيغموند فرويد، مراسلات متكاملة) ضجة كبيرة داخل المجتمع التحليلي الفرنسي.  ففي الواقع، لعبت تلك “الأميرة الشيطانية”، كما دعاها فرويد في رسالة إلى فيرينزي، دورا حاسما في انتشار التحليل النفسي في فرنسا.

كانت ماري بونابرت المؤسس المشارك لجمعية التحليل النفسي في باريس، وقد قامت بترجمة أعمال فرويد إلى الفرنسية، وأصبحت صديقته المقربة، وكانت ماري بونابرت معروفة أيضًا في بقية العالم بأنها نجحت في عام 1938 مع آخرين في إنقاذ فرويد من براثن النازيين. وهي في الواقع ليست مجرد امرأة عادية، بل كانت حفيدة أخت نابليون الأول، ومتزوجة من أمير اليونان في وقت كانت الأرستقراطية لا تزال تتمتع بمكانة معينة، وقد وضعت كل ما لديها، من مال ومهارات شخصية، في خدمة هذا العلم التحليلي النفسي الجديد. وكانت تأمل أن يساعدها ذلك على حل لغز أنوثتها فقد كانت تعاني من مخاوف تتعلق ببرودها الجنسي لذا لجأت الى مقابلة فرويد عام 1925 عسى ان تجد الحل في التحليل النفسي. كانت معاناة ماري نفسية اما فرويد فقد كانت معاناته جسدية اذ كان يعاني من سرطان الفك الذي فشلت كل جهود الجراحة في علاجه. لكن ماري تقع في حب فرويد وتبدأ بإرسال الرسائل له، فتكتب له عن اللقاء والغياب، وعندما لا تتلقى اجابة فهي تتمرد على فرويد وتواصل ارسال الرسائل يوميا حتى يستجيب.

تحاول ماري من خلال المراسلات أن تملأ غياب جسد الآخر، بينما يكون إدمان فرويد للمراسلات، مثل الادمان على السيجار، وهو أحد المصادر اللاواعية لولادة اسلوبه التحليلي الغريب فهي الشخص الذي كان السبب في “أول تحول” لفرويد، وهي التي رافقت كتابة كتابه (تفسير الأحلام).

كان فرويد خائفًا مما يمكن أن يقرؤه المرء في مراسلاتهما وقد قال لماري: “كانت مراسلاتنا حميميَّة أكثر ما يمكن تخيله”، “وكان من الممكن أن يكون الأمر محرجًا للغاية لو سقطت في أيدٍ غريبة”، ففي هذه الرسائل تظهر ماري بونابرت بكل تواضعها، وتعري ذاتها لتكشف عن دواخلها، وعن قوتها المطلقة، وازدرائها للمحرمات؟ كانت ماري بونابرت تكتب إلى فرويد بطريقة قهرية وكأنها تتخلص من أعباء نفسها، وتريح نفسها في كتابة الرسائل. كما دفعها ذلك الى الاهتمام بالتحليل.. وعندما طلبت ماري منه في عام 1932 الإذن بالتواصل مع حبيبها السابق لأنّه فشل في مجاراتها، أجابها فرويد بأسلوبه الفكاهي: “على أي حال، أنت لست مضطرة للبقاء مقيدة من أجل حبي، لست ممن يطالبون بحقوق الملكية!”. 

وفي جميع رسائلها، تكشف ماري بونابرت عن نفسها في ضوء مختلف تمامًا عن ذلك الذي أدركه فرويد عندما كتب إلى فيرينزي في عام 1925 عن مريضته الجديدة، لكنه كان منهكا بالسرطان وعمليات الفك لذا بدأ يفقد صبره من محاولات ماري لإحياء قصص مغامراتها.كانت ماري تخاطب فرويد وكأنه امتداد لنفسها في هذه الرسائل الطويلة التي تتخذ أحيانًا شكل الهذيان. انها تتحدث عن سيرتها الذاتية، وتاريخ طفولتها الذي يمكن أن يقدم له إجابات، ولكن ما فائدة تحليل الأميرة “غيابيًا”؟ كان يقول لها أن ممارسة التحليل النفسي تخضع لقواعد أخلاقية ملزمة، لا سيما بشأن السرية، والتي كانت لا تزال مفقودة في ذلك الوقت، اذ كان يمكن أن تخضع تلك الرسائل للنشر، ويبدأ بعدها الحكم على المرء ولن يغير من الأمر شيئًا عندما يقال بأن هذه رسائل كتبتها أميرة ذات ميول استعراضية قوية، والتي لم تتخيل عند كتابتها أنها ستنشر يومًا ما؟ وقد اثار فرويد بملاحظته تلك الصراع الأساسي للمحللين النفسيين بين متطلبات السرية والمتطلبات العلمية للنشر.

ومع مرور السنين، ومع تقدم ماري في السن، ستأخذ العلاقة الحميمة بينها وبين فرويد المزيد من المنعطفات المؤثرة والعطاء الهادئ، إذ تصبح التبادلات النظرية بينهما أقل تركيزًا على قضية الجنسانية الأنثوية، وأقل تشبعًا بالتنافس أو التمرد على الخضوع لأمر فرويد بتبسيط دوافع المرء. وفي عام 1938، وبينما كان فرويد آمنًا وسليمًا في لندن، كانت ماري تكتب مقالًا عن “اللاوعي والوقت” في 22 آب، وهو التاريخ الذي كتب فيه فرويد في دفاتر ملاحظاته العبارة الغامضة، التي أصبحت مشهورة جدًا: “النفس ممتدة، ولا تعرف شيئًا عنها”، كما كتب أيضًا إلى ماري: “هناك منطقة حدودية بين ما ينتمي إلى العالم الخارجي وما ينتمي إلى الذات: إنها منطقة إدراكنا. وبعد ثلاثة أيام، في 25 آب، أجابت ماري: “نعم، يمكننا أن نقول أن الوقت، والمكان، والسببية، وما إلى ذلك يمكن أن تصبح مشوهة لأنها تقترب من هذه الحدود”.لم يكن الحوار بين فرويد وماري بونابرت من جانب واحد. فقد كانت بونابرت تعبر عن حريتها، وجنونها، وتجاوزاتها، وبمساعدتها أعاد فرويد أيضًا اكتشاف روح الحرية والشجاعة التي كانت تدعمه في كفاحه ضد التيار المحافظ في فيينا.