هاشم البغدادي.. قنديل الخط العربي

ثقافة 2023/05/02
...

 علي إبراهـيم الدليمي


لا يختلف اثنان على أهمية مسيرة الخطاط العراقي هاشم البغدادي في العالم أجمع، بل هو الواقع الذي لمسناهُ جليَّاً، أن نقول بأنَّ مئة بالمئة من الخطاطين الذين درسوا الخط العربي، في مشارق الأرض ومغاربها، قد تخرجوا من معطف مدرسة الخطاط البغدادي ولا يزالون، من خلال كراسته الشهيرة (قواعد الخط العربي) التي صدرت العام 1961، حيث وضع وحسّن فيها قواعد جميع أنواع الخط العربي، وقياساته الدقيقة، كحروف مفردة أو مركبة، أو جمل، مزينة بلوحاته الرائعة التركيب، فكانت أهم وأرقى مجموعة للخطوط العربية كافة، ظهرت حتى الآن في العالمين العربي والإسلامي، بل تعد بمثابة (مدرسة) إبداعية وتعليمية شاملة.

وقد كان البغدادي الراحل في عام 1973 أنموذجاً فريداً ومتميزاً للخطاط، والفنان المتقن لفنون وشكلية الحرف العربي الذي أجاد بكل ما يملك من موهبة وثقافة اكتسبها منذ طفولته لرسم الحرف بشكل دقيق وسليم، بعيداً كل البعد عن جميع التيارات التي حاولت إقلاع أصالة الحرف عن جذوره، أو تشتيته، وقد أضاف رونقاً جديداً لشكل الحرف وسيولة أبعاده، بعد أن أدرك أصالته ومرحلية تطوره منذ (سلالة الخط الحيري) حتى مدرسة الخط الفني المعاصر، فحاول أن يعطي للحرف اكتماله وصورته المرنة، وعبر 

امتيازات اجتهادية فنية رائدة.

لقد تمكن البغدادي بقدرته الذكية أن يتفوق بجدارة على بعض الشوائب التي لازمت الحرف، فبادر برصد التجويد المتقن لملامحه وإدراك أسراره فجدد الأصول ونقح المناهج، رافضاً المفهوم التجاري الذي يهدم بنيان فن الخط العربي، وعبر عن استيائه العميق في مسألة الخروج عن القاعدة التي رسمها أسلافه الخطاطون من قبله، كذلك لم يكن في نظره كتابة الحروف المعروفة، بل كان عالماً روحياً عميق الدلالة والمعنى.

وقد اشتهر البغدادي بغيرته على قواعد وأصول الخط العربي وضبطها وعدم التسامح في تغيير صورته الجمالية، بل أكد على الابتداع في (التجويد) للحرف، ولو تفحصنا ملياً مسيرة البغدادي الفنية نلتمس بوضوح أنه قد رسم ملامح متميزة خاصة لصورة كتابة الحروف من دون المساس أو الاختلال في قواعدها.

إن مثل هذا الابداع لم يأتِ بطريقة اعتباطية، بل جاء وليد مشقة مسيرة طويلة مليئة بالصبر العنيد والتضحية الجادة والولع الشديد وهيامه بحبه لفن الخط وقدسيته الدينية لمكانة الحرف الذي اخذها منذ صباه من خلال تعلمه وحفظه للقرآن الكريم على يد (الملالي)، ولم يتشتت البغدادي منذ بداياته في هوايات أخرى، فقد صب جهده ووقته لاستقصاء أسرار وألغاز فن الخط حصراً، وكتابة المشوقات المستمرة، واجادته أنواع الخطوط العربية بضروبها إجادة تامة، كل ذلك جعل خطه يمتاز بالقوة والرشاقة وتنسيق جمالية التركيب، وتكوين الموضوعات الفنية بأشكال هندسية وزخرفية متناسقة فنياً وفكرياً، فضلاً عن جعل كتاباته المتناظرة ايقاعاً موسيقياً جميلاً ذا قيمة جمالية عالية.

ولد البغدادي عام 1917 في محلة (خان لاوند) ببغداد، وشغف بالخط العربي منذ صباه، وأخذ يتعلم قواعده وفنونه عن الخطاط الملا عارف الشيخلي، وكان من الطلاب المجتهدين والنشيطين في مجال الخط، إذ كان يستوعب أسرار فنون الخط بذكاء عجيب، كذلك أخذ يراجع العلامة الشيخ الملا علي الفضلي الذي كان يدرّس علوم القرآن الكريم واللغة والعروض وأصول الخط العربي في جامع الفضل.. وبقي يكتب ويتمرن والملا علي الفضلي يصلح له ويعجب بخطه ويشجعه ويوجهه، حتى منحه (الإجازة) بالخط العربي العام

1943.

وفي العام 1937 عين خطاطاً مستخدماً في مديرية المساحة العامة، حيث إلتقى هناك بحكم عمله مع الخطاطين المبدعين، أمثال صبري الهلالي وعبد الكريم رفعت وغيرهم حتى عام 1960 حيث نقل ملاكه إلى وزارة التربية واختير رئيساً لفرع الخط العربي والزخرفة في معهد الفنون الجميلة 

ببغداد.

وفي عام 1944 سافر إلى مصر لينتسب لمعهد تحسين الخطوط بالقاهرة، وقد عرض عليهم (إجازته) وقدم نماذج من خطوطه، فنالت إعجاب الأساتذة المشرفين على المعهد، وقد اتخذت إدارة المعهد قراراً بمشاركة البغدادي في الامتحان الأخير للصف المنتهي، فحاز على (الدرجة الأولى بامتياز)، وقد أجازه الخطاط سيد إبراهيم إجازة خاصة، وكذلك الخطاط محمد حسني في العام نفسه، طلبت منه ادارة المعهد أن يبقى في مصر للتدريس في المعهد فأبى.

ولم يكتفِ البغدادي بهذه الشهادات الفنية، إذ كان طموحاً إلى أبعد نقطة، فسافر إلى تركيا وألتقى بالخطاط حامد الآمدي، وهو آخر عمالقة الخط التركي، وعرض عليه لوحاته، وكتب عنده فدهش الآمدي، واعجب بخطوطه، فأجازه مرتين.

وبقي البغدادي يتابع سفره إلى تركيا كل عام تقريباً.. حتى اطلع بنفسه على الخطوط الشاخصة في المساجد والمتاحف والمكتبات والقصور.. إذ إن قدرته لم تتمثل في استخدام التقاليد الفنية السائدة، أو محاكاة الحروف وفق الطريقة التي ألفها الخطاطون، وإنما في تركيب حروف وكلمات النص وفق ابتداع حديث.

ومن آثاره المهمة (مصحف الأوقاف) الذي طبعته مديرية المساحة العامة ببغداد لأول مرة في بداية العقد السبعيني، باشرافه على نسخة للخطاط محمد أمين الرشدي، ثم أعيد طبعه في المانيا مرتين، وقد قام بتذهيبه وترقيم آياته وكتابة عناوين السور والأحزاب والسجدات، كما صنع له زخرفة رائعة (لفاتحة الكتاب وأول سورة البقرة)، فكان بحق تحفته الفنية النادرة والنفيسة، وقد وصل اليه (وسام تقدير) من البابا لفنه الذي استخدمه في زخرفة المصحف الشريف الذي طبعه في المانيا.

كذلك زين البغدادي الكثير من المساجد في العراق بأروع ما رصعته أنامله من خطوط الكتابة على سطور المحاريب والقباب والمآذن، فكانت في غاية الفخامة والروعة، فضلاً عن تصميمه للمسكوكات والعملات النقدية لعديد من الدول العربية، وهذا ما يدل على انتشار صيته وشهرته ومكانته الرفيعة بين الدول والنخب الفنية.