حرّيَّة الدخول إلى فضاء النصِّ وطبقات القراءة

ثقافة 2023/05/02
...

  محمد صابر عبيد

يجب أن يكون الدخول إلى فضاء النصّ من طرف القارئ متسلحاً بأعلى قدر من الحريَّة والرحابة والطمأنينة والسلام، والحريَّة لا تعني هنا الرغبة المجرّدة في المرور على النصّ ومسح وجهه برفق ومن ثمَّ تركه كما هو من دون إحداث أي خرق في صورته، بل تعني القصدية في حرث النصّ من دون أية عوائق يمكن أن تقلل من زخم الفعاليّة 

القرائيّة أو تصد انطلاقاتها.

الحريّة هنا تعني الرغبة أولاً مقترنة بحضور المزاج في أعلى درجات كفاءته، ثمّ الاستعداد المعرفيّ والثقافيّ والأدبيّ التخصصيّ، ثمّ اختيار الطريقة المناسبة لهذه الرغبة والمزاج وهذا الاستعداد على نحو تتحقّق الحريّة فيه بأمثل مستوياتها.

لا يمكن له أن يُنجز إذاً حَرْثُ النصِّ والتنقيبُ فيه على هذا المستوى من غير تسخير فضاءات الحريّة من أجل أوسع وأرحب مساحة للعمل، وأيّ إكراه لمقاربة نصّ معيّن خارج هذا السياق يُفسِد القراءة ولا يحقّق مقاصدها المرجوّة، لأنّ قراءة من هذا النوع ستفتقر إلى عنصر الحرّية، وهو العنصر الأهم في تشكيل فضاء قرائيّ يسمح بالتوغّل العارف في غابة النصّ، ومن ثمّ بلوغ قراءة حرّة مُنتِجة تضاف إلى المُنتج البشريّ الراقيّ في هذا السياق.

الدخول المقيّد أيّاً كان نوع القيد سيسهم في إضعاف سبيل القراءة مباشرة، لأنّ شرط الحرّية وهو يتقدّم ستراتيجيّة الإبداع يجب في الوقت نفسه أن يتقدّم ستراتيجيّة القراءة، على نحو يوفّر لها قيمة اعتباريّة وإجرائيّة لا يمكن التغافل عنها أو تجاوزها، فلا بدَّ أن يتمتّع القارئ بأعلى قدر ممكن ومتاح من حرّية الدخول إلى فضاء النصّ من أجل مقاربته ورصد تجلّياته وفحصه، وهذه الحرّية ستعمل على بناء طاقة تدخّل كبيرة من طرف القارئ بإمكاناتها المشحونة بالحرّية، فحرّية الدخول إلى النصّ على هذا النحو تضاعف من قدرات القراءة وتفتح لها سبلاً جديدةً مضافة، بما يجعل مسارها زاخراً بالرغبة والمزاج والمعرفة معاً.

إنَّ فضاء الحرّية القرائيّ من شأنه أن يحقّق فعاليّة الكشف والاكتشاف في حقل القراءة، إذ كلّما اتّسع فضاء الحرّية زادت فعاليّة الكشف والاكتشاف، والحرّية في هذا السياق تقلّل كثيراً من العُقَد الما قبل قرائيّة لدى بعض القرّاء، حين يدلفون إلى النصّ مدفوعين بتصوّرات مسبقة لا علاقة لها بجوهر النصّ وعالمه وفضائه، بل يسعون إلى إسقاط تصوّراتهم المسبقة على النصّ بطريقة إكراهيّة مفعمة بالتسلّط والهيمنة والتوجيه غير الحرّ للقراءة، غير أنّ الحرّية تحولُ من دون حصول فكرة الإسقاط وتقلّل من زخم الغلواء الذاتيّة القادمة من خارج النصّ. 

تتعدّد طبقات القراءة بتعدّد طبقات النصّ، والقراءة تتوغّل في طبقات النصّ من أجل أن تحقّق التوازي المطلوب بين طبقاتها وطبقات النصّ، لا نصَّ حقيقيّاً بلا طبقات، فالنصّ الذي يتألّف من طبقة واحدة هو نصّ هشّ تستهلكه القراءة من الجولة القرائيّة الأولى ليتحوّل بين يديها

إلى هشيم تذروه الرياح فينمحي بلا أثرٍ يُذكر، لكنّ النصّ الثريّ هو النصّ المؤلَّف من طبقات، كلّما اكتشفتَ طبقةً حرّضتكَ على المضي نحو طبقة أخرى، بكلّ ما ينطوي عليه ذلك من لذّة في البحث والاكتشاف والكشف وتلمّس منجزات القراءة.

كلّ طبقة قرائيّة تؤسس للطبقة التي تليها في سياق تراكم التحصيل القرائيّ، فالطبقة القشريّة الأولى يمكن إزالتها بسهولة لكنّها لا تفضي إلى نتيجة قرائيّة واضحة، ويبدأ العمل القرائيّ الحقيقيّ على القراءة الثانية التي تمثّل أوّل مواجهة صِداميّة مع النصّ، وكلّما انهارت طبقة نصّيّة أمام الممارسة القرائيّة (الاختراقيّة) للقارئ المتمرّس تكسبُ القراءةُ جولةً مهمةً، في السبيل إلى اختراق فضاءات النصّ كافّةً بحثاً عن كنوزه الثاوية في  طبقاته.

إذ تتكشّف في كلّ طبقة رؤيةٌ من رؤيات النصّ تدفع باتجاه الطبقة اللاحقة تسلسلاً ومتابعة واستكمالاً وإثراءً، بمعنى أنّ الطبقة السابقة تشير بعد كشفها إلى مفتاح يُعينُ على الدخول في الطبقة الّلاحقة، وهكذا تتحرّر الطبقات بطريقة متسلسلة ومتلاحقة في سياق رصد النسيج الرابط للطّبقات من أوّلها إلى آخرها.

تبدأ القراءة الميدانيّة الإجرائيّة في النصّ من عتبة القراءة الثانية إذا نظرنا إلى القراءة الأولى بوصفها قراءة تمهيديّة تفتح المجال للقراءات الّلاحقة، ففي القراءة الثانية تحصل المواجهة الحقيقيّة بين عقل القراءة وعقل النصّ، لأنّها الشروع الأوّل باقتحام عالم النصّ واستباحة أرضه واختراق سمائه وتفكيك مكوّناته وإدراك حدوده، والاندفاعة القرائيّة الأساسيّة التي تسعى إلى إخضاع النصّ لإرادتها وسحبه إلى منطقتها، لذا فهي على هذا النحو قراءة خطيرة في سلسلة القراءات اللاحقة، فإذا كُتبَ لها النجاح سيبقى القارئ مستمرّاً في القراءات القادمة وإذا لم يُكتب لها النجاح فإنّ القراءات اللاحقة لن يكون لها فائدة كبيرة، وحين تكون القراءةُ الثانيةُ ناجحةً على هذا المستوى فهي تتيح للقراءة الثالثة القادمة بعدها أن تستثمر

منجزاتها.

القراءات من بداية القراءة الثانية وما بعدها لا بدَّ أن تكون تراكميّة، أي أنّ كلّ قراءة لاحقة تبدأ من منجز القراءة السابقة، وهكذا تستمرّ القراءات في سعيها لاستكشاف طبقات النصّ ومكامنه الإبداعيّة حتى تصل إلى قراءة أخيرة، تكون فيها طبقات النصّ قد أعلنت كاملة عن كشفها، على النحو الذي تختتم فيه القراءات مسلسل توغّلها في جواهر النصّ وفضاءاته، بحيث يدرك القارئ أنّه ليس ثمّة طبقة أخرى لم تُكتشف عنده بما يجعل القراءة تتوقّف عند هذا الحدّ.