بروست جزءاً وبروست كُلّاً

ثقافة 2023/05/03
...

جودت جالي


إنَّ قراءة (البحث عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست، كما يقول روجر شاتاك(1) وهو يتحدث عن الفصل الأول (بنصه الفرنسي المخطوط خصوصاً وترجمته الإنكليزية)، تجعل القارئ موضع تجاذب للأحساسيس التي تولِّدها فيه قراءة الكوميديا الإلهية وقراءة أليس في بلاد العجائب، في آن واحد، عبر سرده الشعري المسترسل الذي نجد له أنموذجاً ساطعاً في تأملاته عن البيت والنوم والقراءة: “... بِرِقَّة، ضغطت خدي على الوسادة الريَّانة، الباردة والناعمة إلى درجة تمنحني فيها خدود الطفولة ذاتها...” وهكذا سرعان ما يستغرق بروست في وصف طفولته التي يسهل النوم اكتسابها صفات سحرية، يعود بنا إلى طفولته، وإلى آدم وحواء، وإلى سكان الكهوف، وفي عودة إلى ما يسميه بروست “لا وجود” .

تذكر القاصة ليدي ديفس (2) أنَّ الشقة التي كتب فيها بروست أغلب هذا العمل هي الآن ملك لبنك والغرفة التي كان ينام فيها ويأكل ويستقبل الزوار ويكتب يستخدمها البنك الآن لمقابلة عملائه وليس فيها ما يذكِّر ببروست غير صورة له وخزانة فيها بعض كتبه، غير أنَّ ما كان يؤطِّر تأملاته اليومية لا يزال موجوداً، في العناصر المعمارية، المدفأة الرخامية والنوافذ الطويلة والأبواب والأرضية الخشبية. تذكر الأثاث الذي كانت الغرفة تكتظ به في الزمن المفقود، وتقول بأنه ربما خطر له بعد حلول الليل وهو يتهيأ للنوم أن يفعل العكس، يخرج ليزور أحد أصدقائه، ويذكر الصديق بعد ذلك أنَّ بروست يشرع بالتحدث بجملة طويلة لا تنتهي إلا بعد منتصف الليل، وهذه الجملة مليئة بالمستعرضات والتصحيحات والإضافات والهوامش والحذوفات. مثل هذا الزخم والاسترسال السردي بتفرُّعاته سمة من سمات (البحث عن الزمن الضائع).

أوردت هذا لأبين للقارئ أنَّ قراءة (البحث عن الزمن الضائع) ليست شيئاً سهلاً ونكاد نجزم أنَّ بروست وضع وجوده كله في مؤلفه هذا وهو فعلاً ترجمة لدقائق حياته وتأملاته وخزينه الثقافي، وطبعاً نحن نتوقع أنَّ من يتناول هذا العمل بالنقد أو التعليق أو العرض يأخذ في حسابه هذه النقطة.

الحقيقة أنَّ شاعرة وكاتبة مثل (آن كارسن) هي محققة في غاية التدقيق عند تناولها أعمال الآخرين. لقد قرأت لها سابقاً جانباً من عملها الترجمي والتحقيقي عن الشاعرة سافو في أكثر من 400 صفحة(3)، وكان اهتمامها واضحاً، على الأقل في كتابها عن سافو وكرّاسها عن شخصية ألبرتين (4) في رواية (البحث عن الزمن المفقود)، إنه ينصب على الميل الجنسي للشخصية. واضح أنَّ اهتمام كارسن الاستحواذي يتمثل حتى إحصائياً إذ تحصي أنَّ ألبرتين ورد ذكرها 2363 مرة، وتم ذكرها في 807 صفحات في الرواية، وتكون نائمة في 19 بالمئة من صفحات الرواية (وهو أفضل وضع يحب الراوي أن يراها فيه). تكشف لنا كارسن في ملاحظاتها المرقمة والبالغة 59 ملاحظة مع 15 ملحقاً، عن أنَّ الراوي الذي يقيم علاقة مع ألبرتين ويسكنها معه في بيته إلى أن تختفي يوماً كان يعتقد أنها سحاقية ولكنها أنكرت ذلك مع أنَّ جميع صديقاتها سحاقيات. الجدير بالذكر أنه يوجد في الرواية ما يوحي بأنَّ إسم الراوي “مارسيل”، كما تذكر كارسن رأي أندريه جيد من أنَّ ألبرتين في الرواية ليست سوى السائق ألفريد الذي عمل عند بروست في الواقع وأحبه جداً. لا تتوقف كارسن عند هذا بل تقتبس لنا إعجاب “مارسيل” بصديقات ألبرتين السحاقيات اللواتي يختلفن عن أصدقائه المثليين المتكتمين، وبهذا توحي لنا بميل الراوي مارسيل الذي يمكن أن نفترض أنه بروست نفسه، كما توجد مقاربة بين موت ألبرتين في الرواية بسقوطها من على ظهر حصان وموت ألفريد في الواقع بسقوط طائرة.        

ليس لدينا اعتراض على تناول جزء من رواية طويلة ومترامية الأطراف في التفاصيل كالبحث عن الزمن الضائع وإخضاعه للتأمل أو النقد وما شاكل، إضافة إلى أنَّ ميلاً من نوع ميل كارسن هنا له اليوم حضور متزايد في التأليف والنقد، ولكن هذا الاجتزاء، إضافة إلى تركيزه على جزئية لا يعود لها قيمة فنية غير القيمة التي أرادتها كارسن بعزلها عن سياقها ويقلل من أهميتها في بنية الرواية، فضلاً عن أنه لا يشكل كشفاً نقدياً فما أحصته واقتبسته موجود في الرواية وغير خافٍ على القارئ، يستبعد استبعاداً متعسفاً جوانب تشكل عظمة رواية بروست في نفس المواضع التي تسجل فيها ألبرتين حضوراً بارزاً لا يقتصر على كونها آلة جنس. ربما يكون مسوغاً لو تم استجلاء القيمة الأدبية أو الفكرية للميول الجنسية ضمن بنية النص.

في الواقع أنَّ التعقيدات الجنسية والسايكولوجية والصراعات الاجتماعية والأحداث في الرواية هي انعكاس، للخصائص المميزة للشخصية الفردية الفرنسية، وللأوضاع الفرنسية في مرحلة معينة هي “الزمن الجميل” الضائع السابق مباشرة ﻠـ “الزمن القبيح” زمن الحرب والخسائر والضياع، وهو أيضاً انعكاس للأخلاقية الفرنسية، وكل هذا جرى تأمله بدقائقه في الرواية. هنا تكمن قيمة رواية بروست بكليِّتها وليس بجزئيِّتها.  

 __________


1)AFTER THE FALL | ROGER SHATTUCk. Pen American issue 2

                         2)THE ARCHITECTURE OF THOUGHT | LYDIA DAVIS. Pen American issue 2      

3)Sappho_ Anne Carson (transl.) - If Not, Winter_ Fragments of Sappho-Vintage. 2023

4)The Albertine workout. Anne Carson.2014