ميادة سفر
كل الخيارات والطرق تفتح أمامك وأنت تتجول في أزقة دمشق القديمة، تشرع أبوابها السبعة أمام الزائر الباحث عن التراث والمفتش عن بقايا آثار تشهد على حضارات مرت على هذه المدينة الموغلة في القدم، تلقاك دمشق فاتحة أحضانها لتلقيك في أحضان التاريخ المتربع في كل حي من أحيائها وكل زقاق من أزقتها، فإن أردت الوصول إلى خان أسعد باشا أمامك عدة خيارات وطرق كثيرة تقودك إلى سوق البزورية الشهير حيث التوابل تنشر روائحها التي تعبق بالمكان، وهنا يتفنن الدمشقيون في عرضها بأشكال وألوان غاية في الجمال والأناقة كحال أصحابهم الذين يستقبلون زوارهم بكثير من الترحاب ويودعونهم بالحفاوة والدعاء.
يقع خان أسعد باشا في جنوب شرق الجامع الأموي، في وسط سوق البزورية، شاهداً على حقبة من التاريخ الدمشقي خاصة والسوري بشكل عام، يحكي عن حضارات تركت بصماتها في هذه البلاد واندثرت بعد أن عمرتّ شواهد للأجيال المتعاقبة، هذا الخان الحائز على جائزة الأغا خان للعمارة يعتبر من أكبر الخانات في الشرق الأوسط، بني بأمر من والي دمشق أسعد باشا العظم، وبدأ العمل به في عام 1751 وانتهى بناؤه في العام 1753 على مساحة تقدر بنحو 2500 متر مربع، لأغراض اقتصادية وتجارية نظراً للموقع المهم لدمشق على طريق الحرير الذي يربط الشرق بالغرب، فضلاً عن كونها طريقاً ومركزاً لتجمع قوافل الحجيج وانطلاق موكب الحج إلى الأماكن المقدسة.
كلمة خان هي كلمة فارسية وتعني المبيت والإقامة المؤقتة، يضم الخان واجهة ضخمة تؤدي إلى باحة مربعة الشكل مغطاة بثماني قباب محمولة على أربعة أعمدة، ويتألف خان أسعد باشا من طابقين، الأرضي ويضم أربعين غرفة موزعة بين أحد عشر جناحاً كانت تستخدم كمكاتب ومستودعات لتخزين البضائع، أما الطابق الثاني فيتألف من أربع وأربعين غرفة خصصت لإقامة ومبيت التجار والمسافرين الذين يقصدون دمشق في تلك الأيام.
تعرض الخان لكثير من الحوادث التي ضربت دمشق عبر العصور ومنها الزلزال الذي ضربها في العام 1759 والذي سبب دماراً وحريقاً في الخان أدى إلى فقدان كثير من الوثائق والسجلات التي توثق الأعمال التي كانت تجري فيه والشخصيات التي تنزل في غرفه، وعمت الفوضى في أرجائه واستولى عليه بعض التجار الذين حولوه إلى مستودع لبضائعهم، إلى أن استملك من قبل الدول السورية ووضع تحت إشراف وزارة الثقافة ودائرة المتاحف بعد صدور قرار الاستملاك عام 1973، وبدأ العمل على ترميمه وإعادته إلى الشكل المعماري الذي بني عليه بعد دراسات تاريخيه وجيولوجية تضمن الحفاظ على نمطه العمراني وتقيه من العوامل الخارجية التي قد يتعرض لها.
تاريخياً انتشرت الخانات منذ العصور الإسلامية وكانت محطات لإقامة واستراحة المسافرين، وقد ازدهرت على امتداد العصور الأيوبية والمملوكية، وبلغت أوجها أثناء الحكم العثماني إذ بنيت مئات الخانات التي لم يبق منها إلا القليل في يومنا هذا، وكان الخان إما يحمل اسم من بناه مثل خان أسعد باشا الذي نتحدث عنه، أو خان سليمان باشا في سوق مدحت باشا، أو يكنى بالمهنة والحرفة التي تمارس فيه مثل خان الجمرك وهو سوق مختص بالأقمشة، أو خان الصوف والزيت والعروس إلى غيرها من تسميات تشي بالمهن التي اختص بها كل خان.
وتحول خان أسعد باشا بعد افتتاحه في عام 2005 إلى مركز للنشاطات الثقافية والفنية والتراثية، فقد استضاف العديد من معارض الفن التشكيلي والعروض المسرحية ومهرجانات للحرف والمهن اليدوية والتراثية، كما استضاف كثيراً من الشخصيات العالمية والمحلية ويبدو أنّ الشاعر الفرنسي لامارتين أحد أكبر شعراء المدرسة الرومانسية في فرنسا، لم يتمالك نفسه من الدهشة عندما دخل خان أسعد باشا أثناء زيارته لدمشق عام 1833، وقد ذكر في كتابه رحلة إلى الشرق: أنّه من أجمل خانات الشرق، وأنّ شعباً ينجب معماريين بارعين في التصميم، وعمالا قادرين على تنفيذ هذا البناء، شعب جدير بالحياة والفن والاحترام، ووصفه الرحالة لورته في كتابه “سورية اليوم” عام 1830 بأنه: “النموذج الأكثر جمالاً في العمارة العربية الدمشقية”.
كغيره من الأوابد التي تغص بها دمشق، كان خان أسعد باشا شاهداً على تاريخ دمشق العريق، متحدثا عن أهمية هذه المدينة وجدارتها بالحياة، فلا يمكن للقادم إليها إلا المرور في حواريها القديمة والتعمد بمائها والتقاط الصور التذكارية لمدينة هي الأعرق والأكثر قدما في تاريخ المنطقة، وهذا الخان كان ولا يزال واحداً من المعالم التي تحكي عنها وتمجدها وتشي بأهميتها التي جعلتها محط أنظار العالم.