أصنام سميتموها

ثقافة 2023/05/03
...

حازم رعد 


يُتقن صانعو السياسة أو ما يسمون “مفكرو الأنظمة أو فلاسفة السياسة”، وهم بصراحة فاعلون مهمون يمثلون القلب النابض للنظام، يتقنون مهام اشتغالاتهم إجادة “صناعة الأصنام”، ولكن هذه الأصنام ليست من قبيل اللات والعزى وهبل، ومع ذلك تأخذ طابع القداسة والإجلال لما تعكسه من هوى ومنطق العظمة أو الغايات التي تكتنزها وبحسب ما يحدده لها منتجوها، هذه الأوثان الجديدة تفرض نفسها كثيمات بمسميات عديدة، منها الوطنية والمذهبية والدينية وحتى القومية، تفرضها حاجة الوقت أو المكان أو لتحل محل أخرى مضادة أو فاقدة لصلاحية الاستمرار وتحقيق الأهداف.

من قبيل الاحتفاء في ( المناسبات - الأعياد - العلم - الهويات التي تتشكل بالتتابع - إنسان السوبرمان - شخصيات مفهومية - حلم الانفصال - المستقبل السعيد - أهداف يحكى عنها ولكنها غير محددة مسكوت عن حقيقتها والغاية منها، صناعة الرموز والإشارات (أعياد ومناسبات وشخصيات وأحداث لها خصوصية من الخصوصيات بالغالب لا تعدو كونها أفلاما ومسلسلات) تؤدي دوراً كوميدياً على واقعنا البائس “فنحن مادة الضحك لها”.

هي بالأساس لغة “كما ترى فلسفة اللغة” تحاكي فاهمة الجماعات البشرية، كلاً بحسب ما يعتقد أو تمت تنشئته عليه ،

يقول عباس العقاد في كتابه فلاسفة الحكم في العصر الحديث: [ لا حرج على ولاة الحكم من استخدام الأساطير والخرافات واختراع قصص البطولة والأعاجيب لترويض الرعية على الخضوع ]، فصناعة ما يشغل هاجس الجمهور ويحرك فاهمته الجمعية مشغل لا بأس فيه لإقناع الناس وإلهائهم وترويضهم وجعلهم هادئين وهذا ما يسمى في مذهب أفلاطون بالكذب النبيل ، كذب مشروع لا يخضع لمعايير المنظومة الخلقية ولا يلاقي أي استهجان من النخبة وصانعي القرار لأنه يسهم في استمالة الشارع وتحقيق أهداف أداتية من وراء ذلك. 

ولعله ينسجم مع الطبيعة البشرية الانقياد مع صناعة الأسماء والعناوين وتقديم طقوس الاحترام والتقديس لها ويبدو أن هذا نزوع عام تمنى به البشرية جميعا، ولعله أيضاً، أن التاريخ عامة حافل بالنماذج الكثيرة الدالة على ذلك فمراجعة سريعة وعاجلة لمجمل تواريخ المماليك والدول والحضارات والتجمعات البشرية المختلفة ستوضح لنا هذه الظاهرة الراسخة في النفوس والضاربة في القدم، إذ توضح التنقيبات والمنقوشات وما وصل من تلك الحضارات والتجمعات، شغفهم بالرموز والطواطم والإلهة والملاحم التي سطرتها بعض الشخصيات حتى صارت أساطير وقصصا يحتفى بها، فالثيران والقطط وتماثيل الأمراء والقادة التي إنما صنعت لتبقي رمزية لهم تنتقل عبر التاريخ لتصل إلينا، وكذلك الأساطير التي تتحدث عن رحلات وملاحم لا ندري أين وكيف قاموا بها وهل هي فعلاً حقيقية وغير منحولة؟ إلا أن حقيقة واحدة نعلمها الآن في الحاضر هي أن صانعها أجاد في حكايتها لنا”.

إذن، فصناعة الرمز وإضفاء نزعة القداسة عليه نزعة بشرية وظاهرة عامة ليس فيها مستثنى إلا أفراد ووحدات اجتماعية بمستوى جيد من الوعي والمعرفة ، إذن هي ليست صناعة جديدة ابتكرت اليوم أو البارحة وهي كما فهمنا ظاهرة تضرب جذورها في عمق التاريخ والمنحوتات ومعطيات التنقيبات خير شاهد على ذلك . 

كما نفهم أن هذه الأصنام تتم صياغتها بحسب الحاجة أو الطلب لتلبي غرضا من الأغراض لفترة من الفترات وبعدها ينتهي الأمد ويتحقق المقصد الذي أعدت من أجله ليشرع فاعل السلطة بما تمكنه مهاراته في صناعة أصنام أخرى تنجز أغرضا جديدة وفق رؤية وآليات أخرى؛ أصنام العقل كما يسميها فرانسيس بيكون للمسرح لتحقيق غاية الإيهام والتضليل، أصنام للسوق للأشغال والإلهاء، أصنام للغة لتمرير الكذب والمراوغة بمفاهيم ومصطلحات وهكذا، وعلى الدوام تُنتج أصنام تحاكي العقل وتفرض في الواقع أطواقا وقيودا تشد عامة الناس وتعمل فيهم ما أعدت من أجله من أهداف وأغراض . 

خصوصية هذه الصناعة أن لها القدرة على اختراق فاهمة الإنسان وأن تتربع على عرشها ليكون بيدها زمام تحريكها وتوجيهها بالوجهة المطلوبة، فإذا رسخت في ذهنه وصارت تشكل جزءاً منه راح يستقتل من أجل الدفاع عنها أو تبريرها وتلميع صورتها ومحاولة تسويقها وكأنها حقيقة لا غبار عليها. مفاهيم كثيرة يدافع عنها الإنسان يوميا ويدفع عنها بالجدل والسجال بل حتى بالاحتراب أحياناً وقد يعدم الحياة من أجلها وهي بالأصل أصنام نحتت في حين حاجة إليها. أسماء سماها البشر وخصها بميزات غير حقيقية، “ملحق طيفي للواقع”، لو استعرنا تعبير سلافوي جيجك ، فلو دققنا النظر فيها فهي “خواء صرف” لا يلبي إلا غرض الحفاظ على السلطة والتمكين من النفوذ، ألا تشاهدها وهي تأفل ويتم الإقلال منها مع مرور الوقت.

وكشاهد على تلك الصناعة، نجد نيتشه مثلاً يصفق لنابليون وقيصر والسفسطائيين “النفعيين” باعتبارهم أنواعاً من الناس كانت لهم قدرة التصرف في عقول عامة الناس، “هؤلاء استطاعوا تسويق أنفسهم كأصنام يشار إليها ويحتذى بسيرتها وما قد حققته، رموز أخرى تضاف لمجموع ما عندنا من تحف صنعناها للفقد الذي أصابنا وما زلنا نبحث عنه”. ماذا حققت تلك الرموز غير الأكاذيب والوهم واختزال ذاكرة الناس في لون واحد من الصياغة وإلفات الانتباه وتسليط الضوء، “الضوء” الذي يوماً ما سيكشف اللص “سارق العقول” من أصحابها.

لو دققنا النظر في المنطق الذي تم التفكير من خلاله في إنتاج تلك الأصنام “الثيمات” لأدركنا أن منطق المصلحة متسرب بشكل كبير في فاهمة أولئك الصناع مما يعني أن للأيديولوجيا الإسهام المباشر في تلك العملية، فالأيديولوجيا بوصفها منظومة أفكار مؤطرة تحتاج إلى تصوير الواقع للمتلقين المختلفين، كما أنها تبرره، عبر آليات وتقنيات تحشيدية ورفع جهوزية تعمل على إدماج تلك التصورات والأفكار مع الواقع وأولئك المتلقين، وتجعله مقبولاً لاسيما أنه يعكس نمط تفكيرهم الذي تعرض للتنميط عبر الجهاز الثقافي والتربوي والتعليمي لمراحل عديدة، فمن الطبيعي أن تلعب تلك الثيمات دوراً في تشكيل الوعي الجمعي وتحريكه بالاتجاه الذي تجده الأيديولوجيا ومن هم وراءها مناسباً ومنسجماً مع مصالحها.

وهذا هو تحديداً ما تقف الفلسفة إزاءه كضد نوعي معارض فهي في الأساس طريقة تفكير حر لا يقبل التحيز داخل بيادق المفاهيم ولا القوقعية في دوائر الولاءات ، لأن هم الفلسفة إخراج الناس من عمليات التطبيع المختلفة ووضعهم في طريق يتقبل الأفكار وينقدها ولا يسلم مطلقاً لها قبل الفحص والتأكد من صحتها ، فآلية الفلسفة الانفتاح والمرونة وإمكانية القبول المستمرة، لذا نجد السؤال والتشكيك والطرح الإشكالي خير أسلحتها في صراعها المرير مع التحيزات المختلفة التي تحتكر الحقيقة وتختزل الواقع بأفكار حدودها الزمان والمكان.