الجو الأدبي وظاهرة التجديد

ثقافة 2023/05/03
...

سلام رحمن التميمي

الصراع الخفي الذي نشهدهُ في الساحة الأدبية يتبدى بصور شتى تُبين هذا التيار أو ذاك، بين هذا الاتجاه الأيديولوجي أو ذلك، ونوعيات طبيعتها وتشكيلاتها الفنية والأدبية، وقد يبلغ هذا الصراع مبلغ التأزم بين التيارات السائدة بحيث يتحول إلى تناقضات تناحرية حاسمة العواقب في مجرى العملية الإبداعية بأسرها.

ولما كان الصدق، وهو الإخلاص التام للحقيقة المطلقة، في جزئية وجودها المشخص، يقتضي ألا نمر بهذا الصراع مروراً عابراً، لابد لنا من أن ندرس هذه المسألة دراسة إيجابية، محاولين جهدنا التخلص من سلبيات النقد المتسرع والأحكام المرتجلة، لتكون لدراستنا هذه جدواها تمحيصاً ومقارنة وتقويماً. فما هي ظاهرة هذا الصراع؟ ماهي أسباب مثولها على هذا النحو الذي نراه؟ وكيف السبيل لتفهم عواقب هذا الصراع وتدارك أخطاره قبل استفحالها واستشرائها.

إن الموقف من الأدب والحياة يُحدده في وضعنا الراهن الموقف من المجتمع والإنسان والعالم، من النظرة العامة التي تنصب على كل تلك الأمور من خلال رؤية شمولية متكاملة، بحيث تتناول القديم بما فيه من أسباب التفسخ والانحلال والتلاشي، القديم في صراعه المحتدم مع الجديد، في كل مقوماته وقدراته على التحرك والفعالية، وخلق الوجود الحي الذي يستجيب لمتطلبات التطور ومستلزماته في عملية الحياة المتجددة دائماً بدون انقطاع.

ولكن هذا التناقض الذي له ألف مبرر ومبرر، قد يتخذ ردود فعل عصبية فقد يتحول الإنسان الفرد، الأديب أو الفنان وهو في هذه الحال، إلى كيان نقيض للمجتمع، إلى وضع اغتراب مأساوي يتنافر وجوده مع الوجود الأجتماعي، فتتضخم الأنا في حالة الفنان هذه، إلى حد مرضي وسواسي، بحيث تتلون بمختلف الألوان المستحدثة لتستقر في خاتمة المطاف على لون معين، يمتاز بالانكماش والانطواء.

فإذا كان القديم استمراراً للأقدم في صورة جديدة في صيرورة جديدة، وكان الجديد تكويناً جديداً للقديم، ينبعث وجوده الماثل من وجوده السابق بعوامل التراكمات والتغيرات الكمية والنوعية، يتحتم على الجديد ألا ينفلت من استمرارية القديم على نحو جديد. فيه من أصالة القديم جذوره، ومن جدة الجديد نسقه وحيويته، وهذا التطور في الثقافة الإنسانية، ومنها الأدب، جزء لا ينفصل. هو في الحقيقة، الميزة الأولى لكل أدب أو فن واقعي، أما الانفصال عن القديم برمته والوقوف منه موقف الند المناقض له جذرياً أسلوباً وعملاً وفكراً، فلا يمكن إلا أن يؤدي إلى ضياع الشخصية الفنية في متاهات العدمية والغيبية ومختلف صنوف المدارس المستحدثة في الفن والأدب والفكر، وبما أن المجتمع الإنساني هو المادة الرئيسة الخام للأدب بمعناه الشامل، فمعرفة اتجاه سير هذا المجتمع، من خلال دراسته وإدراك قوانينه التي تسيره، واستيعاب العوامل السلبية والإيجابية في عملية تطويره وتغييره أو تأخيره، تساعد الأديب على تفهم موقعه من هذه العملية الإنتاجية الكبرى، وبالتالي يتحدد موقف الأديب أو الفنان اجتماعياً قبل أن يتحدد فكرياً وأيديولوجياً، ومن ثم، يمكن أن نحدد ظاهرة الصراع في مجتمعنا بالخلفية الأساسية الآتية: مجتمع نامٍ في حالة صِدام مع مجتمع مُتقدم، عدم تكافؤ عناصر الصِدام، وجود احتمالات التغيير الجذري، حدوث تغيرات وتبدلات اجتماعية كبرى تتمثل بالثورات وما يعقبها من ملابسات، ففي مجتمع كمجتمعنا، على المستوى الداخلي والخارجي، مجتمع تتمثل فيه مختلف العلاقات شبه الإقطاعية والإقطاعية والرأسمالية واللارأسمالية، في ظل كل هذه الصلات المتباينة بترسباتها الغيبية المتخلفة، وقيمها الأخلاقية والاجتماعية المتباينة، يصبح من المفروض ظهور بوادر في فننا تعكس هذه العلاقات سلباً أو إيجاباً، بحيث تتبلور بمرور الزمن، لتكون سلاحاً فكرياً قوياً يعمل على زعزعة الأركان الفاسدة في هذا المجتمع، وتوجيه النيران إلى تناقضاته ومواجهة أنظمته الاجتماعية المتعفنة بالتصدي لها وتعريتها. ومن هنا، كانت صورة البطل في أدبنا تمتاز بملامح معينة، فنجد فيها قسمات التمرد والانتفاض والثورة واضحة محددة، وطبيعي أن نقصد بأدبنا الأدب التقدمي لا أدب القصور والمقاصف وأقبية المجامر ودهاليز الجنس والأفيون، ذلك أن مثل هذا الأدب، إن أطلقنا عليه اسم الأدب تجملاً، لا مكان له في عالم النقد والتقويم في المجتمع الإنساني الحديث. وبما أن عناصر الخلفية التي ذكرناها ما زالت مؤثرة تأثيراً عميقاً في نتاجنا الأدبي والفني من حيث تكوينه وطبيعته ومساره ومعطياته، فإن أخذ المشكلات التي تعتريه بنظر الاعتبار ضرورة جوهرية، ذلك أن هذه المشكلات التي أعضل معظمها لم تجد حلولاً مناسبة لها بعد، ومن هذه المشكلات التناقض الجذري بين وضعنا الاجتماعي الراهن، والوضع الذي سينشأ من مخاضنا الحالي، ونحن في غمرة التحولات الكبرى الآخذة بخناقنا. ولما كان الأدب أو الفن تعبيراً رفيعاً عن مجمل التناقضات الاجتماعية، فالرجوع إلى الواقع مهما يكُن هذا الواقع داكناً كالحاً بشعاً، ضرورة لا مناص منها أيضاً، في كل عملية إبداعية سواء كانت أدباً أو فناً، ومن شروط الرجوع إلى الواقع نقله كما هو بأسلوب فني وعرضه عرضاً نقدياً أميناً وإيصاله إلى الجمهور بمختلف الوسائل والمناهج، ومقابلته بالواقع الذي ينبغي أن يكون، من دون التهرب إلى الذات وإشغالها بالأفيونيات والغيبيات والميتافيزيقيات كما هي الحال في الأدب المستحدث الذي يُحسن (هيربرت كبلي) في كتابه (الفن والمجتمع) وصفه بقوله: (انهزم جيل الخمسينيات والستينيات إلى شطآن خيالية من تكوينات ما تحت شعورهم، إلى عوالم الماريجوانا المهلوسة وتهويمات الهيروين وحامض النسرجيك وعالم الجنس الرايخي والشذوذ والممارسات الصوفية من غير إيمان ولا قيم). وفي هذا العالم المسعور، المعطوب، المتفسخ، تضيع حتى قيم الذات الأصيلة.

مع الإقرار بحتمية الاستمرار التأريخي، في العملية الفنية بكل شموليتها، فإن هذا الاستمرار لا يعني مطلقاً انتفاء الجدة في التكوين والشكل والأسلوب والمعطيات والتنوع في المجالات الفنية جميعاً، وإلاّ تخثر الأدب أو الفن وتجمد وبالتالي تخلف عن أداء دوره الفعال في حقل العلاقات الإنسانية. المهم في الاستمرار هو التطوير الخلاق للعملية الإبداعية من خلال اتصالها بالوضع الراهن والماضي وصلة الراهن بالمستقبل، أو بكلمة أخرى، اتصالها بالصيرورة التاريخية. ومن هنا، كان الشكل وما زال جزءاً لا يتجزأ من المضمون، باعتبارهما وحدة متكاملة، وهنا ينتفض أمامنا سؤال: كيف يمكن أن نوفق بين الجدة والاستمرارية؟ وهذا السؤال وارد ومقبول، ولكننا في مقابل هذا السؤال، نضع سؤالاً آخر؛ هل الجدة بحد ذاتها قيمة جمالية؟ في رأي يونسكو (الجدة قيمة جمالية، وهي القيمة الوحيدة)، وهي كذلك في رأي السرياليين والرمزيين والوجوديين، بينما ينبغي للجدة من خلال فهمنا للمنظور الاجتماعي، أن تكون انعكاساً منسجماً مع المضمون الجديد، وعلة ذلك تعذر فصل الشكل عن المضمون، وإلا ارتبكت العملية الإبداعية، وبالتالي تشوه الأثر الفني، وهذا ما هو حاصل في المدارس الفنية المستحدثة وبخاصة التجريدية منها. الجدة في الفن هي استمرارية ولكن في صيغة أخرى، هي تكوين جديد له أسس وجذور تمتد إلى ما هو عريق وأصيل، وإلى ما هو راهن وماثل، وإلى المستقبل بإرهاصاته، وهذا هو الاختلاف الرئيسي بين الواقعية في مختلف صنوفها، والمدارس المستحدثة في حقول الفن والأدب. وعلى ذلك، فإننا أمام أمرين، إما أن يكتشف الكاتب عالماً مستقلاً عن نفسه، مجتمعاً له وجود حقيقي في واقع عياني يستلهمه من خلال ذاته، ليصوغه صياغة جديدة، على أن يكون هذا الاكتشاف وطريقة التوصل إليه ومعاناته جديدة شكلاً ومضموناً، لأن كل اكتشاف هو فتح جديد لعالم جديد غير مطروق، غير معروف، وهذا ميدان فسيح أمام إشعاعات الرؤية الفنية، وإما أن يطبق هذا العالم على ذات الفنان، فيستنفد هذا العالم في تلك الذات ليحل محله عالمه الخاص بأضوائه وظلاله، بكوابيسه وتشويهاته، بأقبيته ودهاليزه، بتهويماته الصوفية الغيبية ودغدغاته الفرويدية، وتطلعاته الأنانية. وإلى هذا الاختلاف الرئيسي يُشير الناقد (الكسندر ديمشتز) في كتابه (مشكلات علم الجمال الحديث) بقوله: (إن الاختلاف الجوهري بين المدرسة المستحدثة والواقعية يتبدى في رغبة الكاتب المستحدث الصريحة في الهروب من الواقع والتنصل من إعادة خلق قوانينه وتناقضاته المعقدة، وذلك أن الكاتب المستحدث لا يعنى بعكس العالم أو فتح مغاليقه).

وإذا فعل شيئاً فهو الالتهاء بعكس ذاته من خلال ذاته، لا عكس العالم في ذاته والتعبير عن ذلك بأسلوبه الخاص. إنه بدلاً من أن يجعل العالم الحقيقي نموذجاً لرؤياه، يجعل العالم الخيالي نموذجاً ذاتياً لعالمه الذي يقبع في دخيلة نفسه. ومن هنا، يتحول العالم من حقيقة واقعية، وجود عياني مشخص، إلى تصوير ذاتي مشوه ليس له ارتباط بالعالم الحقيقي الذي يعيش بين ظهرانيه، ومن هذا الانطلاق ندرك جيداً ما هو المقصود من مفاهيم اللامعقول والعبثية والعدمية والانبهار والقلق والفجيعة.

إن الكاتب الذاتي الذي لا يعتمد على دراسة قوانين المجتمع، والذي لا تشده بالمجتمع إلا أواصر التبعية الجثمانية، لا يمكن أن يرى في الحياة غير سديم لامعقول، وظلام لا أول له ولا آخر، وارتباك لا تفسير له واختلاط في القيم وفوضى في المعايير، وتشتت في شبكة الحياة وتداعِ في الأسس وتبعثر في المفاهيم. وبما أن ذاته وحدها هي الواعية، فالعالم جميعه لا معقول، إنه عالم هلامي، متبلور النسب، تائه، مستبعد، متروك، ولهذا نجد الصورة الفنية في هذه الذات انعكاساً لكل هذه الأنقاض، ولهذا السبب بالذات نجد التجانس وارداً لدى الأديب أو الفنان، ونجد الهوة واسعة بينه وبين العالم الغريب بالقياس إليه، وعلى ذلك فإن الشذوذ في نفسية الفنان هو الذي يخلق الشذوذ في نتاجه الذي يحاول التوفيق بين صورة العالم التي يراها، وحقيقته النفسية، تاركاً لمثل ذلك الشذوذ العنان، يعمل ما يشاء بحرية وانفلات في عالم متخيل لا أساس له في الواقع، كما هو شأن الكتاب المستحدثين وفناني السريالية والمستقبلية والانطباعية. يقول الناقد الفني (توماس كرافن) في كتابه (الفن دراسة): أنا لا أتقبل هلوسات السرياليين الذين يشوهون وقائع الحياة، لتتلاءم مع كوابيسهم الصغيرة، إن ما أطلبه من الفن هو أن يحتوي على معانٍ، يمكن التثبت منها والمشاركة فيها، والتمتع بها من قبل جمهور واسع وذكي.

ومن هنا، فإن الأديب أو الفنان الذي لا يُقوم وقائع الحياة تقويماً موضوعياً تختلط عليه مشكلة التعبير الرئيسية، لاختلاط مفاهيمه عن العالم وارتباك معايير رؤياه. وقد لوحظ أن هذه الظاهرة العبثية العدمية بارتجافاتها الوجودية والسريالية، قد تسربت بهذه الوسيلة أو تلك إلى عناصر من شبابنا فاشربوا بها والتصقوا بأضوائها البراقة وتمثلوها بصفتها زاداً روحياً لهم، بعد أن تخلخلت مواضع أقدامهم، إما لتقلقلهم الأيديولوجي، أو لفقدانهم خط السير الفكري، أو لمثولهم في بيئة داكنة أفقدتهم سلامة الرؤية وبعثت في قلوبهم الرعب واليأس والقنوط، فانجرفوا يعبرون عن واقعهم الخاص باعتباره الواقع العام. ومن ثم، كان أدب هؤلاء وفنهم تعبيراً ذاتياً عن وجودهم المزعزع ووجدانهم المنكمش على نفسه، على هذه الدرجة أو تلك من الالتياع والانبهار والسقوط المأساوي والتنصل من معظم المواضيع الأدبية والفنية.