محافل الفلسفة... مآتم الفلسفة

ثقافة 2023/05/03
...

د. حيدر عبد السادة جودة

في كلِّ مرةٍ تُقام فيها المحافل الفلسفية, بأشكالها المختلفة, يتمُّ فيها إعلان موت الفلسفة؛ وكما أعلن نيتشة عن موت الإله بفعل الإله ذاته(لقد مات الإله وما أماته غير رحمته), فإنَّ شعار موت الفلسفة لم يحمله الأعداء أو الخصوم, بل الفلاسفة ذاتهم أو المتفلسفون أو طلاب الفلسفة وأساتذتها...

ففي ذات مرة, صعد أحد أبرز الفلاسفة في الفكر العراقي منبر الفلسفة, وهو بصدد تحليل واقع الفلسفة في العراق, فأعلن فاجعة معرفية مفادها (أن نستبدل الفيلسوف بالبطل, شأناً لتغيير واقعنا المعاصر), وهذه وإن كانت تنمُّ عن رؤية واقعية نعيش تحت نيرها, إلا أنها من الأخطاء الشائعة, فالبطل من دون فلسفة جبروت هائل وإرهابي مُدمّر, مع أنَّ الفلسفة من دون بطل, وفي كثيرٍ من الأحيان, مجرد رؤى في زاويةٍ مجهولة... الأمر الذي يتطلب درجة التكامل والتضافر وتشجيع روح التفلسف لصناعة البطل.

 ومما ينبغي أن نشير له, أنَّ السمةُ الغالبة في عقد الورش والندوات الفلسفية تكون من أجل الترقيات العلمية ونشاط الأقسام, لذلك كثيراً ما نسمع من مقرِّر الجلسة أو رئيسها, إزاء تقديمه للباحث الذي يروم الحديث بورقته الفلسفية (أتمنى أن لا تتجاوز الخمس دقائق من الوقت), ولا أدري ما الذي سيقوله ذلك الألمعي في هذه الدقائق الخمس. إضافةً إلى ذلك فإنَّ أوراق البحث التي تُقدم في هذه المحافل الفلسفية, لا تمتُّ للفلسفة بصلة إطلاقاً, وإن حاول البعض أن يبوِّبها في مباحث الفلسفة, لأنَّ مباحث الفلسفة التقليدية (الوجود, المعرفة, اليم) لم تعد مباحث للفلسفة أصلاً, ومن أمثال تلك الموضوعات (الحزن, الموسيقى كرة القدم...), وأنا هنا لست بصدد الإتيان بمجموعة من الأمثلة الرمزية, بل هذه الموضوعات حقيقية وقد قُدّمت في إحدى ندوات الفلسفة وبحضور العميد وجمعٍ غفير من الأساتذة وطلاب البحث الفلسفي.

ولنا أن نسلِّط الضوء على رحلة الفلسفة من التربية إلى التعليم, ونبدأ بما طرحه الدكتور(علي عبود المحمداوي) حول إشكالية التطرُّف في الدرس الفلسفي/التربوي, وهو في ذلك قد أحسن التعقيب, إذ يرى أنَّ الدرس الفلسفي في المدارس الثانوية, الصف الخامس الأدبي تحديداً, قد أساء للفلسفة كثيراً, خصوصاً في طبيعة التعاطي والتفاعل مع الطلاب, فدائماً ما يتصور الطالب بأنها تساوي الإلحاد, لذلك نجد أغلب طلاب الفلسفة معبّئين ورافضين لفكرة التفلسف, حتى إن شاءت الأقدار أن يدرسوا في أقسام الفلسفة, وقد لا يعود السبب في ذلك إلى الطالب بشكل مطلق, فهي مقسمة ما بين الطالب والاستاذ والمنهج, فالأخير فقير معرفياً, والاستاذ غير مختص في أغلب الأحيان, والطالب مصنوع ومدجن من بيئته الرافضة للتفكير النقدي.

وهذا يسحبنا إلى ضرورة النظر في التوزيع العشوائي الذي يُمارس على الطلبة وهم في طور الخروج من الدراسات الثانوية والولوج إلى الحياة الجامعية, فأقسام الفلسفة في هذه الحالة تقبل أقل المعدلات, لذلك نجد تيه الطالب في أروقة الفلسفة, مع أنَّ الفلسفة يجب أن تقبل أعلى المعدلات وأنشط الطلاب, أو على أقلِّ تقدير, يجب أن تُستبعد من مارثون الإنسيابية العشوائية, لتكون مجالاً حراً ترحِّب بمن أراد أن يُرحِّب بها فحسب, وأن لا تكون (علوة) تُباع فيها السلع من بعض البقالين الذين لا يحترمون الدرس الفلسفي في كثيرٍ من صوره.

وإذا ما فشل بعض البقالين في تسويق بضاعة الفلسفة بشكلٍ جيد, فإننا اليوم نُراهن على المتبضِّعين الجدد, ولكن كيف لهم الإبداع وهم تحت وطأة الألوان المعتَّقة, وأنا أتحدث عن اللجان العلمية داخل أقسام الفلسفة وعملية تصديق عناوين البحوث للدراسات الأولية والعليا... يتحقق الإبداع بضرورة تجديد الدرس الفلسفي, وفكِّ الارتباط بمجموعة كبيرة من الموضوعات الفلسفية وتسريحها إلى التقاعد, والعمل على استقدام مجموعة أخرى ناشئة وفتية, بشرط أن لا تنفكُّ عن الواقع ومعاناته, فالفلسفة وقبل كل شيء(طريقة للتفكير في الواقع, تعمل على أشكلة حقول المشكلات الواقعية, بغية نقدها وتقويمها) أو ما أُحبِّذه من تعريفات الفلسفة ما قاله فوكو (نشاط تشخيصي, ومدار فعل التشخيص هو الواقع), ولتحقيق ذلك الإبداع المنشود, ينبغي الأخذ ببعض الاعتبارات, منها:

- الخروج من متاهات التفكير المجرد الذي أكل الدهر عليه وشرب, والانفتاح على جديد العلوم, السيسيولوجيا والإنثروبولوجيا والسيكولوجيا وغيرها, فالفلسفة أولى بالبحث في إشكالاتها من غيرها.

- الفكر العربي منذ عصر النهضة وإلى يومنا هذا, يجب أن يتحول إلى الفلسفة العربية المعاصرة, وأن يُعاد تحقيب تاريخه إلى حديث (عصر النهضة), المعاصر (أتاتورك وسقوط الدولة العثمانية), فلسفة الحداثة (منذ هزيمة حزيران عام 1967), وقد نمرُّ بالمرحلة الراهنة (ما بعد داعش)... وأن يكون مادة أساسية في جميع المراحل, وأن تتشكل داخله المباحث الفلسفية المختلفة (الفلسفة السياسة, علم الاجتماع الديني, نقد الفكر الديني, حوار الأديان, صراع الحضارات, العلمانية والتراث وغيرها الكثير). ويجب الإقرار بأن الجابري وأركون والعروي وأبو زيد فلاسفة, ويجب أن نقرأ الوردي ومدني صالح والآلوسي والتكريتي والأعسم ومحسن عبد الحميد باعتبار أنَّ ما كتبوه ونشروه يمثل المدرسة العراقية في الفلسفة, ويجب أن تُكتب عنهم الرسائل والأطاريح, فهم قاماتنا المعرفية التي ننتمي لها, لانتمائهم إلى واقعنا المشترك.

وقد يعترض الكثير على هذه الموضوعات وخروجها عن الفلسفة, وهؤلاء المعترضين يشهدون حقاً بأنَّ الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) من أعظم الفلاسفة المعاصرين, ولا أدري لما ننعته بالفيلسوف وأغلب ما اشتغل عليه يتمثل في تحليله لظاهرة الجنون والجنسانية والخطاب والسلطة والمراقبة والمعاقبة, فأين ما سبق من الفلسفة؟ وبالتالي يجب الإقرار بأنه فيلسوف لكونه قد اشتغل على موضوعات حيوية وواقعية داخل الأُفق النظري للأبستيم المعرفي. وهذا ما يجب أن يتنبّه له المعترضون, إنَّ الفلسفة لا تُقنَّن في أبواب, ففي أبوابها آلاف الأبواب التي تُفتح بأثر الزمان والمكان, وتلك الأبواب المرصَّعة بذهب أفلاطون وفِضَّة أرسطو يجب أن نغادرها, لأنها وإن كانت ذهبية, إلا أنها دُفِنت مع مومياء أسطورة الكهف.

 -السرد التاريخي في الدرس الفلسفي, فلو نظرنا في المنهج الذي يعكف عليه طالب الدراسات العليا (ماجستير- دكتوراه) سنجد أنَّ هناك ما تُعرف بـ(فلسفة القيم), وهي مادة تسلِّط الضوء على الفلسفات القيمية من حمورابي إلى توفيق الطويل, أو فلسفة التاريخ التي تبدأ من حضارات وادي الرافدين والنيل إلى الحواليات الفرنسية وما بعدها, أو الكندي ورسائله الفلسفية, والغزالي الذي حرّم الفلسفة وكفّر المشتغلين بها, وابن رشد ومناوشاته مع الأخير... من خلال ما تقدم, نفهم المساحة التي يقدمها استاذ الفلسفة لطالب الفلسفة في اختيار موضوعته الفلسفية, فلا خيارات أمامه إلا الرجوع إلى مثل ما ذُكر لكي يتخلَّص من ضغط الدراسات ويُسرع في احتساب شهادته في وظيفته, والمضحك المُبكي, أن ينتهي به المُطاف (صدفةً) في زاوية من زوايا الجامعات العراقية الشهيرة.