حضور النزعة الروائيَّة في المسرح المعاصر

ثقافة 2023/05/03
...

د . سعد عزيز عبد الصاحب

تستدعي الكتابة الجديدة الانفتاح على المنعطفات الأساسية والتحوّلات الكبرى التي جاءت لتقويض البناءات الأرسطية الكلاسيكية بنسقها العمودي وفي هذا السياق تأتي مغازلة وافتتان الكتابة المسرحية المعاصرة للرواية وهي الحركة التي يسميها الناقد الفرنسي (سارازاك) بإضفاء الروائية على الكتابة المسرحية ، وبالمناسبة فإن حضور مسألة إضفاء النزعة الروائية على الكتابة المسرحية لم يأت منعزلاً عن سياقها التاريخي والثقافي إنها مسألة سيرورة تعود إلى ما يسميه سارازاك  بالرواية الدرامية ويستند رأي الناقد الفرنسي على ما كتبه (دورت) من أنَّ حلم أميل زولا بمسرح واقعي ما كان ليتحقق إلا عبر وساطة روائيِّ القرن التاسع عشر مثل بلزاك وفلوبير .. وستمضي حركة اختراق الرواية للمسرح وستتأصل تدريجياً النزعة الروائية في الكتابات المسرحية بما يجعلها تبدو مكوناً عضوياً من هذه الكتابات وسنلاحظ حضور تلك النزعة بقوة في نصوص (تشيخوف) في (الخال فانيا) و(طائر البحر) و(ابسن) في (البطة البرية) و(يوجي اونيل) في (الامبراطو جونز) و(ارثر ميللر) في (موت بائع متجول) وغيرهم ممن لا يتسع المقام لذكرهم ، على أنَّ حركة إضفاء الروائية على الدراما لم تتوقف عند مسرحيات القرن العشرين ، بل استمرت فصولها مع العودة القوية والدؤوبة لفنون الحكي بصفة عامة وتيار ما بعد الدراما وليس فقط في المسارح الغربية بل وفي مختلف مسارح العالم ومنها المسارح العربية وهو ما يصفه الباحث المغربي المعروف (خالد أمين ) بـ(المنعطف السردي) إذ يقول :  (نشهد في الزمن الراهن ازدهاراً لم يسبق له مثيل للعروض الحكائية والمسرحيات المونولوجية  في جميع أنحاء العالم بما في ذلك عالمنا العربي .. هكذا يعود الحكي بقوة إلى الممارسة المسرحية المعاصرة ) وجاء تجلي هذا الحضور السردي في مسرح المغرب العربي وخصوصاً في المسرحين المغربي والتونسي لدى المخرجين (محمد الحر)و(أمين ناسور)و(عبد المجيد الهواس) و(وفاء طبوبي)و(سيرين غنون) وغيرهم بتأثير كامن من فنون الحكي والسرد الأوروبية وتاثير تيار السينما الفرنسية الجديدة من جهة بتغليبها الوثائقية والتسجيلية في أساليبها الفلمية وتأثر ثالث يتمثل بفواعل المسرح الملحمي البريشتي الذي قدم الراوي والحكي والبنية السردية لتفعيل أثر التغريب من خلال الروي في عرضه المسرحي وصيغة العتبات والمحطات في العنونة المشهدية التي أزاحت تلك التراتبية الأرسطية التقليدية للحبكة والإيهام والتخدير الذي تنتجه ، أما ما ألقته التجربة المسرحية المغاربية من ظلال على التجربة المسرحية العراقية نصاً وعرضاً فهو بلا شك أمر لا يحجب بغربال جاء هذا التأثر والتأثير بفعل المثاقفة والتناسج الثقافي وتبادل الخبرات في ضوء المهرجانات والمناسبات المسرحية التي شاهدنا فيها العروض المسرحية المغاربية ولا يمنع ذلك من تأثر المخرجين والمؤلفين المسرحيين العراقيين بالنزعة الروائية والسردية لديهم خصوصاً في تجارب (جواد الأسدي) و(مهند هادي) و(هوشنك وزيري) و(علي عبد النبي الزيدي ) و(كاظم نصار) وقد استثني تجربة المخرج/المؤلف(جواد الأسدي) من ظلال التأثر بالتجربة المغاربية إذ اختطت لها طريقاً آخر ارتبط برواية السيرة الذاتية له التي اتخذت منحى (ناستالوجيا) وحنيناً حاداً للماضي في عروضه الأخيرة كحمام بغدادي و(حنين حار) و(أمل) وكذلك تأثيرات السردية التشيخوفية ومجموعة من الروائيين الروس التي انصهرت في كتاباتهم فواعل البيئة الدستوبية الملوثة والإنسان المتمرد الذي يقبع داخلها أسيراً ليرى العالم من منظور واسع باحثاً عن الحرية كما في مسرحية (تقاسيم على الحياة) المستمدة والمتناصة مع قصة طويلة لتشيخوف بعنوان (ردهة رقم 6) وتتمظهر تجربة المخرج/ المؤلف (مهند هادي) بأعلى تصوراتها السردية والمونولوجية في ضوء استنطاقه للوقائع اليومية المأساوية في الشارع العراقي إذ تهدَّمت لديه الشخصية المحورية الرئيسة وظهرت شخصيات من الهوامش القصيِّة لتنازعها البطولة كصبَّاغ الأحذية وغاسل السيارات وبائع الصحف الجوَّال والمُدمن كما في مسرحيات (حظر تجوال) و(في قلب الحدث) و(كمب) وشاعت لديه اللغة الساخرة (الباروديا) وتصل في تداولها المسرحي للغة الشارع اليومية بتقنية (التداعي الحر) و(المونولوجية/الرمزية) وفي مسرحية (خلاف) يعتمد على الصياغات السردية في حوارات (الأم) و(المحقق) لتعزيز ثنائية الحضور والغياب وذلك بتعدُّد الرواة داخل النسق الدرامي فتارة نرى الراوي العليم والراوي الضمني والراوي الملحمي بتحوّلات بوليفونية متعددة وتسجيل صوتي يعلن عن قرارة ما يجول في نفس الشخصيات ويعتمل داخلها بأشكال سردية قادمة من تأثرات مهند هادي بالرواية الحديثة والسينما الفرنسية وتمثُّلاتها التسجيلية  ، وكذلك تتجسد في نصوص (هوشنك وزيري) تلك النزعة الجندرية الحادّة باتجاه البوح والاعتراف والقيمة الاحتجاجية لدى المرأة المقموعة والمكبوتة بفعل العامل الاجتماعي والديني واستخراج مكنوناتها ومضمراتها من منظور (الرس) ومرجعيات التربية والنشأة والسلطة العقائدية كما في مسرحية (فلانة) وتداعيات الجنون وادعائه وملابسات اللاشعور والهذيان من منظور التحليل النفسي في مسرحية (أمكنة إسماعيل) ويقدم المخرج المؤلف (كاظم نصار) في مسرحية (سينما) تشظية للشخصية المحورية من نوع آخر وبوليفونية جديدة عززت من القيمة المونولوجية / الذاتية للشخصيات التي تعلن عن واقع غروتسكي ساخر لا يمكن مواجهته  والثأر منه إلا بالبوح لتتطهر الشخصيات من مأساتها وقلقها الدائم فتنهض من قبورها لتواجه الحياة مرة آخرى وتسائلها وتُفصح عما يعتمل داخلها .