القصيدة أمام تحوّلات الوعي

ثقافة 2023/05/04
...

  استطلاع: حسن جوان

يقول الشاعر الفرنسي رينيه شار: «إرثنا غير مسبوق بوصيّة»

تلك الوصية التي لم تقو على الإنبات، في مناخات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبروز تيارات أدبية وفنية، زادت وترها انشداداً محنة الحرب وتربتها الرمادية المدخنة، إذ انطلقت آنذاك سهام تجربة متمردة في أنحاء العالم، شعراً ونثراً وفنوناً بصرية. لا نغالي اليوم في مقاربة هذا التوصيف الآنف، بمناخات التجربة العراقية المثقلة بالمتغيرات الحادة والمأزومة منذ عقود، وانفراط مقولات وتحقيبات كانت في ما مضى أسساً معياريَّة في قراءة تجارب، منفردة كانت، أم منضوية في جيل، أو نسقٍ أيديولوجي. لقد أورثتنا تلك الظروف جيلا غير مثقل بتركة قادرة بنفسها على فرض هيمنتها، أو فضائها العام، على خطاب لغوي أو روحي في التجربة الشعرية المعاصرة، التي تستند فيها جملة من المختبرات الشابة، الى مضامين فردية ورؤى فلسفية، لم تركن غالبها الى منهلٍ واحدٍ في طرائق توقها.

هذا الواقع المخفف من الوصايا، وغير المبرّأ من حمولات الواقع الجديد، الذي أطلق شروطاً أكثر تعقيداً وانفتاحاً، دفعنا الى طرح تساؤل مشترك على أربع تجارب حاضرة في المشهد الشعري الشاب ويتضمن النقاش الآتي:

* ما هو الفضاء الذي تتحرك فيه القصيدة الجديدة، وهل تمتلك معياراً متمايزاً عن سابقاتها في محاكمة شعريتها كنصٍ لغوي ورؤيوي، ينتمي الى تجربة ثقافية محمّلة بأكثر من مزيجٍ وتحدٍّ محلي وإنساني؟


إيهاب شغيدل:

- لا شك أنَّ لكل قصيدة يكتبها الشاعر فضاءها الخاص، لكنْ يمكن القول إنَّ للنصوص المتجاورة من حيث الزمن مغذياتها المشتركة وأبعادها الإنسانية المشتركة أيضاً، التي تشكل في ما بعد ما يمكن عدَّه فضاءً جيلياً، بمعنى أنه في كل زمن تبرز جملة من القضايا الإنسانية والاجتماعية وطريقة التفكير الشعرية التي تنعكس داخل النصوص مكونة ذلك الحس المشترك للنصوص.

‏ويمكن تلخيص ما تتميز به النصوص التي تكتب في الوقت الحاضر على أنها نصوصٌ متخلصة من العقد الأيدولوجية التي كانت سائدة في الأجيال السابقة، كما أنها رهينة العنف الاجتماعي الموجود، فترى أغلب النصوص ذات صوتٍ عالٍ انفعالي يعبر بكثافة عن انفعالية الإنسان الذي يعيش كوابيس العنف اليومي، كما أنَّ موضوعتها عادة تنشغل بمعالجة العنف وما يدور حوله.

إنَّها قصيدة تكرس وقتها من أجل إثبات عدم تشابهها مع الآخرين في زمنٍ لم تعد فيه القصيدة محركاً للجماهير، فلا بُدَّ لها من أنْ تخلص لذات الكاتب وتلتصق به.

قصيدة يمكن القول عنها تتلصص على حياة الشاعر وتطرق أبواب الهامشي في الحياة وفي الوقت ذاته تسعى للشهرة الميدوية، لذا تراها تشتغل بالحد الأدنى من اللغة، في زمن لم يعد الرهان على النص الطويل مجدياً، صارت القصيدة كثيفة وقصيرة فمنذ سنوات لم أقرأ مجموعة شعرية جديدة تتكون من قصيدة واحدة طويلة إلا ما فاتني. فضلاً عن أنَّ النص الشعري أصبح مجاوراً للسينما والكتب المعرفية التي لم تكن متوفرة بهذه الكثافة في ما سبق، وهذه المجاورة أعطت النص الشعري بعض التقنيات منها مثلاً تجد هنا قصيدة تعتمد على اللقطة أو قصيدة المشهدية التي توظف الحوار بشكل سينمائي.

من شأن تلك الملامح أنْ تدلَّ على أنَّ الشعر مادة تتغير مع الزمن مثله مثل أي اشتغال إنساني حيوي وحرٍ آخر، كما أنَّ وظيفته تتغير مع الحياة وهذا ما يجعل الإنسان ملزماً بكتابته إلى الأبد.


«ضغائن اليابسة»

على غرار اليابسة

في المياه أيضاً تحصل ضغائن

تمتد شبكات من البغضاء والبيوض

قبائل من السمك تجتاح أخرى

وهكذا يكتمل مشهد الوجود

الذي لم يكن واقعياً

ودون تلك الأسنان

التي تصبح في ما بعد

أواصر تطوي المرء 

كما لو أنه سلك يوصل شحنة العيش.

«إيهاب شغيدل»


رزان الحسيني:

- فضاء القصيدة الحديث هو نسيجٌ مرنٌ يتأرجح بين الذاكرة الشخصية والذاكرة الجماعية، تتحرّك فيهِ الذات الشاعرة مخترقةً حدود الزمان والمكان الحسيّة، مُبتدعةً بنية شعرية جديدة لتصهِرها في الدلالة. فاللغة الشعريّة الحديثة تحررت من صنميّة البلاغة التقليدية لتُصبح بندولاً ذهنياً يتراوح بين التجريدية والتأويلية في الفضاء النصي، بعد أن كان مقولباً -إلى درجة كبيرة- بقوالب وحدود الفضاء النصي المكتوب وحده، وعلى هذا الأساس يُمكن اعتبار الشكل الشعري للقصيدة الحديثة بأنه القشور الخارجيّة لحبّةِ الذَرَة، وإن المعنىٰ التأويلي والمعنىٰ المرجّح يتكشفان عند كل تقدمٍ في تحليل -تقشير- التجربة الفكريّة والثقافيّة في مقطوعات القصيدة، مُرتبطةً ارتباطاً لا يُمكن إغفاله بحقلها الكامل، الذي هو تجربة الشاعر الوجودية نفسه، فالقصيدة أصبحت تعكسُ الحركة الفلسفيّة والجدليّات البشريّة المتصاعدة وقضايا العصر الاجتماعية والنوازع الداخليّة ومشاعر اليأس/ الأمل الإنسانيّة، كمرآةٍ من عمقِ بئرٍ يقبعُ في منتصف المدينة، بصخبٍ ورقّةٍ في الوقت نفسه، وبشفافيةٍ خصوصية، لا يُمكن مقارنتها مع مكوّنات وشكل القصيدة القديمة.


«قيودٌ من حرير»

بُرج منارتي مُضاءٌ بالعشبِ الصارخِ كلَّ صباح

فلماذا إذن

تهاجرُ السفنُ مرفأ قلبي

المنيعَ على الأوبئة، الأصمَّ عن الأزمات..

ربما جفّ ماؤك، أيها السائل

هل تفقدتَ نهرك مرتين؟


أملي

يسقي أرضاً محروقة، ويرسمُ لوحةَ خلقٍ زاهيةً

عن دربٍ بالأبيض والأسود..

أيها القيدُ من الحرير،

أيها الأذان بعد الفاجعة!

أرضي ورقٌ، وسمائي مرعىٰ المأساة

إفتح ما شئتَ من الأبواب

لن تلقىٰ وراءها سوى الهجرَ والعناكب.

«رزان الحسيني»


مهند الخيكاني:

- على الرغم من أنَّ لكل حقبة زمنية بروزات ثقافية وفكرية تميزها وتكون الحاضنة لأغلب نتاجاتها ، إلا أنني أرى بأنَّ لكل شاعر في خضم تلك الاشتباكات توجهاته في القصيدة ومنها ينطلق في ترسيخ تصوراته الفكرية والفنية وغيرها، وذلك لأن الشعر ببساطة كامن في كل ما هو إنساني ينحو باتجاه التجاوز والتجرد من القوقعة التي تفرضها الأيديولوجيات بغض النظر عن شكل النص. لكنْ إذا ما شئنا إلقاء نظرة بانورامية على هذه القصيدة باختلاف مشاربها في نظرة كلية الى حدٍ ما، فإننا سنرى أنها تتراوح بين ما هو كوني وبين ما هو محلي بحسب القدرة على توظيف المادة المراد شعرنتها وشحنها من الداخل بطاقة فكرية تمنحها القدرة على ملاصقة الحياة وعكس شيء من إشكاليات الواقع سواء بما كان موضوعياً أو ذاتوياً. ولعلّنا نستطيع محاكمة النص اليوم بحسب ابتعاده عن التغريض والتخندق في أطرٍ من الانتماءات الضيقة، خصوصاً أنَّ الواقع السياسي والثقافي في العراق بعد 2003 هو واقع ينطوي على مضامين لبيئة فكرية وثقافية مختلفة، اتخذت من الكتابة عموما بجميع تشكيلاتها وصنوفها منفذا لما هو مغاير ومنفتح على الحياة والعالم والكون، وللقصيدة الجديدة نصيبٌ من كل تلك التغييرات ولذلك نلحظ ارتفاع الخط الاحتجاجي مثلاً كنسق في النصوص الجديدة أو القصيدة الرافضة لكل المركزيات السلطوية السابقة بما فيها من أبوية وقبلية، وأقول لربما هذا هو واحدٌ من أهم الأسباب التي جعلت القصيدة الجديدة تميل الى الوضوح العميق أو الوضوح الغامض مبتعدةً عن الترميز والرطانة اللغوية ومحاولات التمويه داخل النص، قصيدة تميل الى مواجهة موضوعها وتبنيه ويمكن للقارئ تمييزه بسهولة، على اعتبار أنَّ النص يمثل انعكاسات لوقائع سياسية وثقافية متأثراً بطبيعة السلطة ونوعها وتشظياتها على كل من الثقافتين المادية والمعنوية للأفراد. ويمكن القول إننا نعيش في حقبة استطاعت القصيدة أنْ تستعيد عافيتها وعافية الشعر فيها بعد أنْ تخلصت من الرقيب وأخذت بالتحول الى أداة فضائحيَّة لكل ما هو مستور ومنبوذ ومعيب بصوتٍ عالٍ. واللطيف أنَّ القصيدة الجديدة في جانبها العمودي تأثرت لدى بعض الشعراء بهذه التغييرات وصرنا نقرأ قصائد موزونةً ومقفاة تحمل في طياتها خطاباً حداثياً تنادي به مثلاً قصيدة التفعيلة أو النثر بما فيهما من ميول نحو الكشف والفضح وإعادة قراءة الماضي والحاضر بوعي «هنا والآن» مثلما هي لدى عارف الساعدي وهزبر محمود وأجود مجبل على سبيل المثال لا الحصر. وعلى وجه الخصوص تمركزت هذه التغييرات في نصوص النثر أكثر بل إنها الحاضن الأكبر لها وهذا جانب آخر يحتاج الى مساحة كبيرة لنقاشه.

من خلال ذلك يمكننا أنْ نقول أيضاً بأنَّ القصيدة الجديدة امتلكت تنوعاً غزيراً في الموضوعات التي تتناولها بدل الانكفاء على موضوعات محدودة بين الفرد والسلطة وبين الفرد ونصوص الحصار والحروب، إذ إنَّ بِركة الموضوعات الشعرية انتعشت وأصبحت عامرةً بتناولاتها اللامحدودة لكل شيء في الحياة، حيث صار بالإمكان اتخاذ عود ثقاب موضوعاً مهمّاً للقصيدة أو أية تفاصيل أخرى صغيرة ومهملة تنتمي الى فضاءات الحياة اليوميَّة.

في الختام، إنَّ الأفكار كلما نضجت تتخلص من عموميتها واتجاهاتها الكونية الى اتجاهات أكثر تحديداً وتركيزاً، مثل الاتجاه السائد الآن الاتجاه الحياتي اليومياتي الذي يهيمن على أغلب نصوص هذه المرحلة وكل المراحل التي قيل وتم الاعتراف بشعريتها، فهي قصيدة منتجة وتميل الى الابتكار وليست قصيدةَ محاكاة وتعكز على الماضي. وتجدر الإشارة الى أنَّ حتى الغرضية في بعض نصوص اليوم هي غرضية مختلفة عن تلك السابقة ذات الهالة المناسباتية الخالية من الشعر والفكر وخصوصاً في بعض قصائد الرثاء.

ونضيف الى ما ورد أنَّ هناك من النقاد من أطلق على أجيال ما بعد 2003 جيل الجوكر لكونهم لا يميلون الى شكلٍ شعري على حساب آخر، بل يمارسون كتابة الشعر في مختلف الأشكال الشعريَّة عمودية وتفعيلة ونثراً ما دامت ممتلئة بالرؤى والأفكار المدهشة.

«محاولةٌ لابتكار حنجرة»

أنا الهاربُ رقم 

«لا أدري» 

من السؤالِ الأخطرِ في العالم 

«كل ده كان ليه؟»

حيث لا يكون الجوابُ كافيًا 

مهما 

تحملت فتحَ الذاكرةِ 

والمرورَ بأوجاعكَ واحدة واحدة.

ستبدو عاجزًا مثل كرسيٍ

في بيت للعطلِ الصيفية ِ

مركونًا ويحتضنكَ الخارجُ بكل 

رحابته 

لكنّكَ مجردُ عاجز ٍ

يعشقُ محمد عبد الوهاب

الذي ترك بابَ الأغنية مفتوحًا 

ولم يجد الإجابة يومًا

حتى ظننتَ 

أنَّ دوركَ في النبوة

هو القادم.

«مهند الخيگاني»


د. هناء أحمد:

- أرى أنَّ القصيدة في كل أزمانها جديدة، فهي تحافظ على تجددها عبر الفرادة التي تمنحها الحضور الدائم والدهشة والحداثة، وما تحمله من لغة وأفكار بأسلوب خاص، ولا يمكننا أنْ نعول على اللغة فحسب في بناء القصيدة، أجد ذلك ظلما للقصيدة، فهي مزيجٌ من حياة متكاملة، القصيدة كائنٌ حيٌّ تؤثر وتتأثر بما حولها، فضلاً عن كون «الحداثة مصطلح فني وليس زمنياً» - كما يقول الناقد حاتم الصكر.

وبناءً على ذلك، يمكننا أنْ نرصد تحركات القصيدة الجديدة/ المعاصرة على مستوى البناء والمضمون، ولا شك أنها من جانب الهيكلية الخارجية والإيقاع الخارجي أثبتت حضورها في الأشكال الشعرية المتنوعة (الوزن في قصيدة الشطرين والتفعيلة، وقصيدة النثر) ولكنْ لا يمكننا فصل البناء عن المضمون، لذلك جاءت التمفصلات الداخلية للقصيدة محملة بالإرث الثقافي بنحوٍ عامٍ ممتزجة بكل ما في روح العصر من متغيرات على كل الأصعدة الحياتية.

القصيدة المعاصرة بوتقة لكل ما يحمله الإنسان المعاصر من فكر وأحلام وتطلعات وذكريات، واللغة تعطي الشّاعر المساحة الشاسعة للتعبير عن ذلك سواء جهّزت له القالب الخارجي أو تركته يرسم فضاءً حرّاً تتحرك فيه قصيدته، وهو في كلتا الحالتين أمام تحدٍّ وجودي، تحدٍّ يضعه وجهاً لوجه في مواجهة المسؤولية تجاه ما يكتب، لا سيما المسؤولية الفنية، فمن المعروف أنَّ كلّ ما تبثه النصوص من أفكارٍ مهما كانت محملة بخصوصيَّة وخطوط جغرافية معينة هي بالتالي تحمّل الفكر الإنساني بنحوٍ عامٍ تجاه ما يحدث في العالم.

إنَّ خصوصية القصيدة المعاصرة لا سيما العراقية تنبع من كونها تواكب الأحداث والمتغيرات التي تطرأ في هذا الواقع الهش، فضلاً عن تلك الأصالة التي تحافظ عليها، فهي قصيدة تشارك الواقع المعاش بمناسباته الحياتية دينية كانت أم سياسية أم غير ذلك، ولست أتحدث هنا عن سيل النصوص «المناسباتية» الطارئة التي تسمى ظلماً «شعراً» وهي ليست سوى تهنئة أو نعي أو هذيانات لمناسبة ما، الحديث هنا عن القصائد الحقيقية التي تحافظ على وجودها الشّعري في كل زمان ومكان ولا تسلبها أية مناسبة- مهما كان انفعالها- توهجها الشعري وحدود فنيتها الخاصة.

من جهة أخرى فالقصيدة التي تخرج من رحم بيئة ما لا شك أنها أمام تحدٍ كبيرٍ لتصل إلى العالمية عبر استنطاقها للذاتية وما يدور في المحل الذي خرجت منه، وفي جميع مراحلها الكتابية تمر بمزيج من المتناقضات العامة والخاصة، ابتداءً من اللحظة الأولى التي يلتقطها فكر كاتبها مروراً بأوضاعها اللغوية والثقافية إلى حين تشكلها بالصورة الأخيرة أمام متلقٍ له هو الآخر ثقافة في تلقيها وتحديد مسارها، ومن ثم مشاركته في إنتاجها – كما في نظريات القراءة والتلقي أو التوصيل الحديثة.

ومهما اختلفت مكونات القصيدة المعاصرة، ستبقى في إطار حربي لا تستطيع الانفكاك عنه، فنحن العراقيين خريجو حروب في حياتنا الشعرية والعامة كذلك، نعم.. تتعدد الحروب والقصيدة واحدة.

(علناً)

كهذا الصباح

أو ربما قريباً من هذا المكان

كنا سنلتقي...

وسأخلع عن كتفي

كلّ اللاءات التي أملكها

وعن قدمي جورب الصمت!

كنا سنلتقي في ركن القصيدة

ارتق عندها.. قميصك المبلل

بالجوع

والخيبات

والمواعيد

والوظيفة

وأيادي النساء - هل شممتَ كم هُن أنيقات؟

وبعضِ الملاجئ..

بينما ستنشغل شفتاي

بقراءة أصابعك!

كنا سنلتقي

دون أنْ تعدك جدائلي

بأنها ستبقى

غيرَ قابلةٍ للنثر أو الإيقاع العروضي!

كنا سنلتقي

لو لم تقمْ بخيانتي علناً

مع الحرب الأخيرة.. 

(هناء أحمد)