القيمة المعرفة للخيال

ثقافة 2023/05/06
...

 د. فارس عزيز المدرس

يعد الخيال من أخصب الصفات البشريَّة، وإذا كان الخيال عنصراً إيجابياً يثري التفكير؛ ويوجِّه السلوك، ويسهم في تغيير الواقع؛ فإن له أيضاً القابلية على التدمير. وتكمن خطورته في أن لا حدود لمدياته، ولا معيار لأفقه، ويدخل في المجالات كلها. والثراء المعرفيُّ المنبثق عنه لا حدود له. لكن ما معيار المعرفة المنبثقة عن الخيال وما طبيعتها؟.

في تعريف الخيال

مِن المفيد بدايةً إلقاءُ نظرةٍ على معنى المعرفة. وعند التحري سنجد كمّاً كبيراً من الآراء، وكلُّ بحسبِ اعتقاده وثقافاته.

لذلك توسّعتْ تعريفاتُ المعرفة؛ ومعظم المعجميين العرب اتفقوا على معانٍ حاولت الإحاطة بدلالة المعرفة.

ويرى التهانوي أنّ مِن معاني المعرفة: إدراك الشيء بالحواسّ. 

ويُراد بها العلمُ؛ تصوّراً كان أمْ تصديقاً. 

والمعرفةُ: مسبوقةٌ بجهلٍ؛ بخلافِ العلم، لذلك يُسمَّى الحقُّ تبارك وتعالى بالعالِم دون العارف.

والمعرفةُ في الإنكليزية: knowledge  أو Cognition عمليةُ الفهمِ من خلال الفِكر والخبرة والحواس، وهي في الغالب - فيما خلا النزوع الحدسي والعرفاني - مُرتهنةٌ بالعملياتِ المنطقية والاستدلال العقلي. 

  أمّا تعريفُ الخيال فذَكرَ ابن فارسَ: الخيالُ ما يتَخيَّله الإنسانُ في منامِه.

ويُعرِّفه عليٌّ الجرجاني بأنَّه قوةٌ تحفظُ ما يُدركه الحسُّ مِن صورِ المحسوساتِ، فالجرجانيُّ يربط الخيالَ بالإدراك، لكنه لا يعطيه قيمةً أكثرَ مِن كونه قوةً تحفظُ الصور الحسيَّة، وهذا تعريف فقير.

ويقول التهانوي: يُطلق الخيال على المعدوم الذي اخترعته المخيلةُ وركَّبته مِن الأشياء المُدرَكة بالحواس الظاهرة.

أو ما اخترعته القوةُ المتخيلة اختراعاً. 

وهنا نلمس التطوّر الدلالي لدى التهانوي؛ إذ أضاف للخيال قابلةَ الابتكار وجعل الأشياء المنعدمة شاخصةً. 

أمّا المتصوفة فيعدون العالمَ مَحض خيال، وهذا اشتقوه من تأويلهم حديث الرسول (ص): (الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا)، يعني تظهر عليهم عند الموت الحقائقُ التي كانوا عليها في الدنيا، والمعجميون عدُّوا الحياةَ خيالاً أشبه بالنوم.

وفي المصادر الأوربيّة يُعَدُ أوغسطين أولُ مِن استخدمَ الكلمةَ اللاتينية Imagination على أنها تعادلُ كلمةَ تخيّلٍ الإغريقية. 

وفي القرنِ السابع عشر استعملها باسكال لوصفِ الأشياء التي لا وجودَ لها إلا في مُخيلةِ الإنسان. 

ثم تطورت الأحوالُ، وصار الخيالُ أحدَ منافذَ المعرفة، لكنه بقي مثارَ جدلٍ عميق.

    

قيمةُ المعرفة الخياليَّة

اختلفت المذاهبُ في تحديدِ قيمة المعرفة وعلاقتها بالخيال، فـأصحابُ المذهب العقلي رأوا أنَّ الإنسانَ يستدلُ بالعقل. 

أمّا التجريبيون فذهبوا إلى أنّ التجربةَ أرسخ برهاناً. في حين ذهب المذهبُ الحدْسي (هنري برجسون) إلى أنَّ العقلَ ليس وحده سبيلُ المعرفة. 

وهذا القولُ وإنْ كان فيه صحة؛ إلا أنّ إلغاءَ العقلِ لا يتوافق والمبادئ الأولى للمعرفة.

والخيالُ لدى شوبنهاور مرتبطٌ بالعبقرية، فيعرِّفه قائلاً: هو أداةٌ تساعد الإنسانَ على التحرّر مِن مبدأ الفرديَّة والزمان والمكان والعلّية. 

فالخيالُ لديهم له سمةُ تقديمِ مَعرفةٍ خاصة؛ وله قدرةٌ على تحويرِ ما لديه مِن تجربة، إلى صورٍ حسيَّةٍ وذهنيَّةٍ جديدة.

يحتوي مفهومُ المعرفةِ الخياليّة على إرباكٍ يُفضي إلى تحوّلِ المعنى في ذهنِ القارئ، فقولُنا: المَعرفةُ الخيالية ليس المقصودُ به المعرفةَ التي تتّصفُ بأنّها خيالية، بل المعرفةُ التي تأتي مِن طريقِ التخيّلِ، والذي يعزّز هذا الرأيُ القائلُ بأنَّ المعرفةَ واحدةٌ؛ وإنْ اختلفتْ طرائقُ تحصيلِها. 

والحالُ لسنا في محطِّ مقارنة حرفية بين قيمة المعرفة العقلية والمعرفة الخيالية؛ لأننا لن ننتهي إلى حسمٍ، لكن نقول بواقعية: لا قِبلَ لأحدٍ أنْ ينفي أنَّ للخيال قيمة معرفية؛ حتى وإنْ اختلفت في الحكم عن المعرفة العقلية. 

 يرى باشلار أنّ الخيالَ عمليةُ استحضارٍ واعيةٍ لصورٍ ذهنيةٍ متعلّقة بالمواقف والخبرات السابقة، لهذا لا يمكننا الوقوفُ على عمليتي الإدراك والتفكير بعيداً عن التخيّل. 

وبدون الخيال لا يستطيع الإنسان تصوّر الأفعال قبل النطق بها. 

ولا يتمكّن من تخيّل ما هو موجود فحسب، بل ما يستحيل وجوده أيضاً. 

وهذا يعني خصوبة الخيال، وقدرته على تركيبِ الصور ليكوّنَ منها كُلاً مُركباً هو غيرُ الأجزاء التي تشكَّل منها. 

وقد بلغتْ قيمةُ الخيالِ عند الرومانسيين حدّاً اعتَبَروهُ مَلَكةً من مَلَكاتِ العقل؛ بها تتمثل الأشياءٌ الغائبةٌ لتبدو كأنها ماثلةٌ لشعورنا. 

الخيالُ له مَساسٌ بعملية الإبداع الفني؛ فضلاً عمّا يشكّله مِن بعدٍ جمالي، لذلك تعبِّر أخيلةُ الأدباء (المبدعين) عن الكثير من المعاني الفكرية، وحتى النظريات الكبرى التي يقول بها الفلاسفة والعلماء التجريبيون. 

ولم تعد الأفكارُ المتأتية من قصص الخيال مجرد أوهام، بل تحوّل الكثيرُ منها إلى واقع. 

والكثير مما نحسبها أساطير هي في حقيقتها أجوبة متخيَّلة على الكثير من الأسئلة الوجوديَّة والمصيريَّة.

والاختراعات التي قدمها الصناعيون كالغواصات والطائرات والهبوط بالمظلة، والمروحية والدبابة تطورت عن قصص الأدباء ورسوم للفنانين، كتلك التي رسمها الإيطالي دافينشي في القرن السادس عشر، بل إنَّ الكثير من اليوتوبيات وحتى الديسوبيات تحوّلت إلى وقائع. 

وعلى هذا فالخيالَ لا يقلُ أهميةً عن الوعي، إذ تجمعهما علاقةٌ خاصة، وهي علاقة تبادل الأدوار؛ أو تعالقها، ... وأحياناً يكون الوعي عاملاً في تثبيت الخيال، ليصبح الخيالُ جزءاً حيوياً في تنشيط القابلية الإدراكيَّة، وهذا يعني أنَّ الخيالَ لا يقع على الضدِّ من الوعي، بل يعتمد أحدُهما على الآخر، ولا يختلفانِ إلا في طريقة العرض، ونوعِ المعرفة التي تنتج عنهما.


  خصوبةُ الخيال 

تؤكد روث بايرن R.M.J. Byrn في کتابها الخيال العقلاني (The Rational Imagination How People Create Alternatives to Reality) على أنّ الخيالَ الإنسانيّ يقومُ على أساسِ المبادئ نفسِها التي يقوم عليها التفكير، والتفكير الخيالي والتفكير العقلاني ليسا متعارضين، ... وما الخيالُ إلا تفكيرٌ في بدائلَ الواقع. وبايرن تمنحُ الخيالَ استقلاليةً لا تمنع وجودَ علاقاتٍ خاصة بينه وبين الواقع. 

وما يؤكد هذه العلاقةَ، قدرةُ الخيال على طرحِ البدائل، الأمرُ الذي جعله مِن الاهتمامات الجوهريةِ للفلاسفة والأدباء، وكذلك العلماءُ في العلوم الطبيعيَّة. 

ومن الوارد أنْ تكونَ هناك أَخيلة غيرُ سويةٍ، وتُصنَّف ضِمن الخيالِ المضطرب، الذي أساسُه الصور غير المنتظمة، كما في الهذيانات والأوهام والأمراض النفسية، ناهيك عن التخيلات الخرافية. 

وحال الخيالُ كحالِ الفكر؛ قد يكون مريضاً، وقد ينساق تحت سطوة الإرادة ليكون أداةً للشر والعقم الابداعي.

لا يستمدُّ الخيالَ الخصب خصوبته من غرابته وتعقيداته؛ بل لا بدّ مِن أنْ يكونَ ذا بُعدٍ يسمو بالإنسان بما يخدم قضاياه الجوهريَّة، وهكذا خيالُ يستطيع العبورَ نحو وعي الآخرين؛ فبالخيالِ الخصب يُمكِنُنا التقرّب مِن مشاعرهم وإثراء وعيهم بالواقع، أو بالتطلعات التي تستهدف تطوير الواقع والارتقاء به. 

وعليه فالخيالُ وما ينتجه الإدراكُ مِن وعي يشتركان في بناء الكيان الاجتماعي، ويُؤسِس المخيالُ الاجتماعي من خلال اللغة الشروطَ الأساسية لوجوده الثقافي والتاريخي.

ويؤكد على ذلك ماريو يوسا - الروائي الحائز على جائزة نوبل- بقوله: مِن دون الخيال سنكون أقلَّ وعياً بأهمية الحرية لتكون الحياة قابلة للعيش، وبالجحيم الذي تتحول إليه؛ عندما يتولى أمرَها طاغية أو أيديولوجيا. 


   آليَّة اشتغال الخيال الأدبي

 يظهر التمازج بين نظرياتِ الخيالِ والأدبِ في كثير مِن النِتاجاتِ الأدبيَّة، وتُعدُّ قصائد كولريدج مثلاً تعبيراً فنيّاً عن نظريةٍ في الخيال؛ تبنّاها وذهب فيها إلى قدرةِ الخيالِ الإبداعي على المعرفة الحدسيَّة، وتأسيس رؤى شعريَّة خصبةٍ مشحونةٍ بالمعرفة، وهذا دليلٌ على قدرةِ الأدب في تكوين المعرفة عِبر عوالِم النص. 

والمعرفة الأدبيَّة المتخيَّلة ميزتها أنَّها تفوق المعرفة العقلية في قدرتها على التواصل والتأثير في القارئ؛ فهي ذات طابع جماهيري ناجز، يعززه عدم اكتراث غالبية الجمهور بطلب الأدلة ونفورهم من صرامة المعرفة العقليَّة والفلسفيَّة وحتى العلميَّة.

ومن خلال مُراجعةِ الأعمال الأدبية يبدو الإبداعُ المرموق يتجاوز ثنائية الفكر والعاطفة، بحيث تبدو الأفكار مشرّبةً بالعاطفة، مما يضعنا أمام فهم عاطفي للفكر، متحولٍ بإكسير الخيال إلى صورٍ ومجازاتٍ صانعةٍ للفكر، وبهذا نكون أمامَ وِحْدةٍ جامعةٍ بين الفكر والشعور؛ تضيق معها الفروقُ بين المعرفة والخيال. 

يمنح الخيالُ النصَ الأدبي القدرةَ على تجاوز الواقعية والتقريرية، ويتحوّل إلى عملٍ يقلقُ علاقتنا بالواقع، ويجعل اللغة تبدو خطيرة بتعبير هولدرلین قبل نيتشه، مما يَجعلُ الظاهرة الأدبية متميزة، 

كونها تُلغي الخاصية التقريرية، وتسعى إلى تدمير العالم (الراكد). 

ومِن هنا لا وجودَ لخطابٍ خياليٍّ منفصلٍ عن الواقع، والعلاقةُ التي تجمع الأدبَ بالخيالِ علاقةٌ جدليَّة، ويقوم الأخير ببناء هذا العالَم بتركيبِ الاستعارات والصور، التي بدورها تقوم بتفعيل ذهنِ المتلقّي وفتح آفاقٍ فكريّةٍ جديدة أمامه.

ومن هنا يكون الأدب عالَماً مُتخيّلاً من حيث المبدأ؛ إلا أنه واقعيٌّ من حيث الاشتغال؛ وبهذا تشتغلُ الأفكارُ وتؤثر في الأذهان؛ لأنها تعبِّر عن تجربةٍ؛ حتى إنْ كانت محاكاةً أو تمثُّلاتٍ، أو ابتكاراً. 

ومع ذلك فالخيال الأدبي إذا فقد تماسكه وتحوّل إلى صورٍ قسريّة؛ بلا دلالة وترابط فسيفشل في تحقيق غايته المعرفيّة

والإبداعيّة.