سفرة تونس {الحرجة}

الصفحة الاخيرة 2023/05/07
...

محمد غازي الاخرس

بدأت بسوء حظ وانتهت بعطل فني، تلك هي سفرة تونس التي لا تتكرر. 

ذهب صاحبكم ضمن وفد العراق إلى معرض الكتاب هناك، بعد أن كاد أن يعود من المطار بخفي حنين بسبب سوء حظه. 

يتعلق الأمر بجواز سفري، فبينما نحن في الطريق إلى المطار، اكتشفنا أن موظفة ما نسيته في أحد أدراج مكتبها بالسفارة التونسية. كان جوازي المگرود هو الوحيد المنسي في ذلك الدرج، وكان على رئيس الوفد الشاعر عارف الساعدي ومكتب وزير الثقافة التسابق مع الزمن لإحضاره قبل إقلاع الطائرة، القصة قصة أقدار وسوء حظ لا أكثر، فمن بين سبعين جوازاً كان جوازي هو الوحيد الذي تعرض لهذه المحنة. 

الطريف هنا أنني حين أبلغت بالمشكلة، كنت أحدث أحد الأصدقاء في الباص عن مشروع شعري كنت تبنيته قبل أكثر من ربع قرن، وهو محاولتي المستميتة لترسيخ نوع نثري أسميته حينذاك "النص الحرج"، واعتقدت أنه يمثل مرحلة ما بعد قصيدة النثر. 

وفي خضم حديثنا، أبلغني أحد موظفي الوزارة بالمشكلة، وقال إن جوازي ما زال في درج السفارة، فبهت قلبي في وقت قال لي صديقي بأن الجواز دخل إذن في مرحلة حرجة، فانفجرنا بالضحك.

ضحكنا ظاهراً من مفارقة "الحراجة"، لكننا في العمق، قهقهنا من حظي السيئ الذي جعلني معلقاً بخيط رفيع.

لكن في الأخير، أفلحت الجهود فوصل الجواز قبل خمس دقائق من موعد الإقلاع إلى تونس. 

هذا ما جرى في بدء الرحلة، أما في خاتمتها، فحدث أنه بينما كنا ننتظر تأشير جوازاتنا للعودة إلى بغداد، تهامس نفر منا بشائعة مقلقة، تفيد أن الطائرة التي من المفترض أن تقلنا إلى العراق تعاني من عطل فني ما. 

ثم تأكد الهمس وعدنا أدراجنا إلى الفندق ليعاد حجز غرف جديدة لليلة أخرى حتى تتوفر طائرة ثانية تأتي من بغداد.  في اليوم التالي، توفرت الطائرة وعدنا بسلام.  عدا هذا، تونس هي تونس، بلد ذو شخصية متفردة، شعب متحضر، متمدن، بسيط وسهل المعشر، أناس لديهم شعور قومي واضح، يعشقون العراق ويعبرون عن ذلك بمجرد معرفتهم بهويتنا. فدولة العراق القومية كانت ذات فضل عليهم لدرجة أن أحد المثقفين التونسيين قال لنا مفسراً ذلك الحب بأنه من جيل فتح عينيه ليجد نفسه يتعلم بكتب مدرسية مكتوب عليها "هدية الجمهورية العراقية للشعب التونسي". وبقدر ما أشعرنا ذلك بالفخر، أزعجنا عشق أغلبيتهم للطاغية الذي سامنا سوء العذاب. كانوا يذكرون اسمه بمجرد معرفتهم بعراقيتنا، وكان بعضنا يحاول إفهامهم رؤيتنا حوله وموقفنا منه. لكن على من ترتل مزاميرك يا داود! هي قناعات شعوب مغسولة الدماغ، قناعات شبه مقدسة يبدو من المستحيل هزها بعبارات نقولها. 

لقد لاحظت أنهم حين يسمعون رأينا، يصمتون للحظات، قبل أن يستجمعوا أنفسهم وعقولهم ويشرعوا  في اختراع ما يعللون به محبتهم لطاغية يكرهه شعبه. ولأن الحديث عقيم، ولكي لا ننكأ جراحنا، كنا نسكت ونتركهم مستريحين لقناعاتهم المقدسة.  هذا بعض من حديث رحلة تونس الحرجة، ولنا عودة لوصف ذلك البلد الجميل، فانتظرونا.