العتبة الأولى

ثقافة 2023/05/08
...

 د. كريم شغيدل

      قديماً عنون الكتاب العرب كتبهم ورسائلهم ومقاماتهم، لكنهم لم يعنونوا قصائدهم، بل عرفت القصائد بمطالعها، كما عرفت بعض القصائد بالمناسبات التي قيلت فيها كقصيدة البردة لكعب بن زهير بن أبي سلمى، أو قصيدة أبي تمام في فتح عمورية، وعرفت المعلقات بأسماء شعرائها، وعرفت بعض القصائد باقتران اسم الشاعر بقرينة شفاهية هي حرف الروي كميميَّة المتنبي ودالية أبي العلاء وهكذا..، ومن هنا يمكن القول إن شيوع العنوان الشعري يعد ظاهرة مستحدثة، اقترنت بصورة واضحة بحركة الشعر المعاصر أو الحديث بالتوصيف الزمني، بما في ذلك النمط العمودي.

فالقصيدة العربية القديمة لم تكن بحاجة إلى عنوان، لأنها كانت تنتقل شفاهياً ويكتفي كل من الشاعر والراوية والمتلقي بنسبتها لشاعرها، لكن في عصور التدوين وتراكم الموروث أصبحت الحاجة قائمة نوعاً ما، لأن التدوين يحتاج إلى تبويب وقد تحقق ذلك في سائر كتب الأدب، لكن عنوان الشعر بقي رهين الشاعر، فقيل ديوان البحتري أو ديوان أبي نواس، إذ طرأ تطور ملحوظ نتيجة الانتقال من الصحراء إلى المدينة، فالصحراء مفتوحة وبلا عنوانات دالة وواضحة إنما يعتمد الناس على علامات طبيعية كالواحات والغدران والتلال والأشجار، أو من صنع الإنسان كالآبار والخيم وما إلى ذلك، وقد تنسب الأماكن إلى قاطنيها قبائل كانوا أم أشخاصاً، ومع نشأة المدن واستقرار الحياة وانتشار التدوين أصبحت للعنوان أهمية، وربما يكون الشاعر أبو العلاء المعري أول من عنون ديواناً شعرياً هو (سقط الزند) ثم (اللزوميات)، ولعله أول من فكر «بإنتاج دواوين يوحدها إما جهدٌ وانشغال فنيان أو أنها ظلت تركز على موضوع واهتمام موضوعي خاص» كما يقول عبد الزهرة زكي، وفي العصر الحديث بعد انتشار الطباعة وانفتاح الثقافة العربية على الثقافات الأخرى، أصبح العنوان علامة مميزة لكل إصدار شعري، عنوانات دواوين شعراء المهجر على سبيل المثال التي ظهرت مبكراً بسبب الاحتكاك الثقافي بالغرب، ثم تطورت فكرة العنوان بعد أن كان دلالة موضوعية تشير إلى مضمون النص، وعادة ما يختار الشاعر عنوان إحدى القصائد التي يعدها قصيدة مركزية أو مميزة في تجربته التي جمعها في مجموعة شعرية أو ديوان، بعضهم يقتطع جملة لها وقع داخل حركة النص ليحولها إلى عنوان، وآخر يختار مفردة تتكرر، ومنهم من لجأ إلى الأسلوب القديم بجعل المقطع الأول عنواناً، حتى أصبح العنوان بالأهمية التي هو عليها اليوم، بمعنى آخر إن العنوان ظاهرة ثقافية ولدت في سياق تحولات ثقافية وحضارية، فمع اختلاف سياقات التواصل الشعري بين الشاعر والمتلقي، من الشفاهية إلى القراءة، أصبح العنوان ضرورة وركناً أساسياً في القصيدة، وللعنوان وظائف» أشار جيرار جينيت إلى بعضها نحو: التعيين والوصف والإيحاء والإغراء. 

إلا أن عنوان النص الفني لا يقف عند حدود تلبية تلك الوظائف الأربع فحسب، بل يتعداها إلى الدخول في عملية تأويل متبادل بينه وبين نصه على المستويات التركيبية والدلالية والتداولية»، وهذا ما سننتهجه إجرائياً خلال بحثنا عن البعد الإشهاري للعنوان.

     تأتي أهمية العنوان الشعري من كونه يمثل العتبة الأولى، وهذه العتبة توحي في الكثير من الأحيان بالرؤية الشعرية للنص، وأحياناً يوحي بثيمة النص، أو بمضمونه، أو برسالته الأخلاقية، ويكشف في أحيان أخرى عن أسلوب الشاعر في الصياغة، وقد يشكل حركة دلالية أو صوتية تتناغم مع المتن، وقد يفصح عن مهيمنة دلالية، أو توجه أيديولوجي، وقد يعلن عن قناع، فلكل عنوان مساره الدلالي القصدي، وقد يعوض الشاعر في العنوان عن مساحة دلالية مفقودة في النص، وقد «اهتمت السيميائية بكل ما يحيط بالنص من عناوين، ومقدمات، وهوامش، وتنبيهات... وذلك بعدما تبين أنها من المفاتيح السحرية المهمة في اقتحام أغوار النص وفتح مغاليقه ومجاهيله»، وعادة ما يضع الشاعر عنوان قصيدته بعد إكمالها، لذلك نجد أن القصدية تتجلى في العنوان بصورة تامة، قد يضع الشاعر موضوعاً مسبقاً لقصيدته ويختار عنواناً مسبقاً، لكنه هنا لا يخرج عن التقريرية الموضوعية المباشرة، ويمكننا أن نعد العنوان علامة جذب للقارئ وإغواء وإغراء واستمالة، مثلما هو دليل للتواصل مع المعنى الذي يبحث عنه داخل النص، وللشعراء أهواء وغايات ومقاصد في صياغة عنوانات قصائدهم ودواوينهم، فمنهم من يكتفي بكلمة واحدة (الكوليرا) لنازك الملائكة و(خزائيل) لخزعل الماجدي، أو حرف كمجموعة أنسي الحاج (لن) أو مجموعة عدنان الصائغ (و...)، وفي الغالب هناك ميل عام لاستعمال الجمل ذات البنية الإسنادية (مضاف ومضاف إليه، موصوف وصفة، معطوف ومعطوف عليه) والأمثلة كثيرة (أنشودة المطر، منزل الأقنان، المومس العمياء، الأسلحة والأطفال للسياب، وقمر شيراز، بستان عائشة، مملكة السنبلة للبياتي، وحارس الفنار للبريكان، وشجر الليل، شجرة القمر لنازك، ويقظة دلمون للماجدي، جوائز السنة الكبيسة لرعد عبد القادر)، كما هناك توظيف لشبه الجملة (الجار والمجرور، الظرف: الزمان والمكان) مثل (غريب على الخليج، للسياب، والناس في بلادي لصلاح عبد الصبور، والأب في مسائه الشخصي لزاهر الجيزاني، وسهول في قفص لوسام هاشم، والسائر من الأيام لمحمد تركي النصار، والعاطل عن الوردة لباسم المرعبي، والحياة في غلطتها لزعيم النصار)، وقد شاعت العنوانات الطويلة في بعض التجارب، فبعكس (لن) يأتي عنوان آخر للحاج هو (الرسولة بشعرها الطويل حد الينابيع) كذلك عنوانه الآخر الذي ينطوي على تساؤلية إنكارية وبهيمنة حركية فعلية (ماذا صنعت بالذهب/ ماذا فعلت بالوردة) و(أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) لمحمد عفيفي مطر، وهو عنوان مركب بانزياحات شعرية بمثابة مقدمة فنية ودلالية للنص، بل هو مقطع شعري يمكن أن يكتفي بذاته على غرار الومضة الشعرية، كما شاعت العنوانات المتعددة كمجموعة عباس بيضون التي جاء غلافها بثلاثة عنوانات (زوّار الشتوة الأولى/ مسبوقاً بـ/ صيد الأمثال/ يليه/ مدافن زجاجية)، وهناك توظيف للجملة الفعلية مثل (مر القطار لنازك، اليد تكتشف لعبد الزهرة زكي، دع البلبل يتعجب لرعد عبد القادر)، أو البنية التساؤلية (هل كان حباً؟) التي شكلت إعلاناً لريادة الشعر الحر إلى جانب قصيدة (الكوليرا) وأيضاً هناك توظيف للأسماء والرموز والتواريخ، وللبياتي مجموعة قصائد تبدأ بالحرف (إلى) بصيغة تجعل من القصيدة رسالة موجهة إلى مرسل إليه، هذا إلى جانب تخلي بعض الشعراء عن العنوانات في النصوص التي يعتقدون أنها تشكل وحدة متكاملة أو مترابطة، فيكتفون بعنوان رئيس ثم يستعملون الأرقام في تبويبها، آخرون يكتفون بوضع كلمة (قصيدة) وهكذا تختلف أساليب الشعراء في صياغة عنوانات قصائدهم ودواوينهم أو مجموعاتهم الشعرية، بل تختلف عند الشاعر نفسه من تجربة

لأخرى.