الكتابة حين تغدو هماً ووهماً

ثقافة 2023/05/08
...

 جينا سلطان

    يقرن كونديرا في روايته كائن لا تحتمل خفته ظهور الفن الرديء بمحاولة تجاهل الناس اللعنات التي تصب على حياتهم. وتعزى تلك اللعنات إلى غياب الانسجام بين النفس والعقل في النتاج الفني والأدبي لحقبة الحداثة في الميراث الغربي المادي. وهو ما يستدعي إلى الأذهان روايات باولو كويلهو بوصفها أنموذجاً قوياً للفن الرديء، والتي حولته إلى ظاهرة عالمية ثالثة بعد فرويد وماركس. فشبهة الروحانية في روايته الأولى الخيميائي المأخوذة عن ألف ليلة وليلة، دفعته لانتزاع كلمات ذات وقع كبير لدى المتعطشين للصفاء، أمثال اللغة الكونية والروح الكونية، من سياقها التنويري لدى «ريتشارد بوك» في كتابه «الوعي الكوني»، ودمغها لاحقا بصكوك الغفران، لتطفو على السطح صورة امرأة ساحرة آتية من رواية بريدا، تختبر العالم من خلال المتعة. 

    تتخلق هذه المرأة في رواية وليمة حب سماوية(1). بإهاب الشاعرة والمسرحية النرويجية «داجني يول ريبيشفيزكي»، التي وصفها «كاروميديسي» برمز الحياة في الموت والموت في الحياة، إذ تمتعت بعزف الفلوت على فقرات الرجال المحيطين بها، وسكبت فيهم الغيرة الممزوجة بالإثارة، محولة مخاوفهم الجنسية إلى ثورة فنية، تهدم جماليات ما سبقها من اتجاهات سادت في نهاية القرن البائد. وبسبب شخصيتها المقاومة لأي نقاء داخلي تعكسه أسطح المرايا المعتمة قتلها معجب بأسلوب همجي بدائي، لتصبح قرباناً على مذبح طقوس نشأة الكون، التي تُختزل بالتشتت اللساني في مدينة تفيليس، الأنموذج المتواضع عن برج بابل الأسطوري. 

    ماتت داجني في تفيليس في العام 1901، والتي امتزجت فيها العديد من اللغات والجنسيات وأساليب الحياة المتنوعة، مع احتفاظ كل ثقافة بهويتها المميزة، فهيأت أرضية خصبة لتلاقح الأفكار في الرواية. بالمقابل، طرح بحر الخمر الجورجي المظلم إشكالية الإدمان وغياب الحب، وأيهما يعطي المعنى للآخر؛ فبولس الرسول يشيد بمكابدة الحب للمشقة وانسجامه مع الحقيقة، بينما تمنح الخمر التي ينسجم معها الراوي بعضاً من الحقيقة. لذلك يستخدم كاروميديسي المرأة ـ الساحرة كغذاء فاخر لأفكاره الخاصة عن الحب، ويلتهمها، كما فعلت الحشود بجسد غرنوي المتعطر بعبق الأنوثة. وبذلك يعيد توطين نفسه الغرائزيَّة، وفق لغة الفلسفة، ليشارك أبطاله محنة التفكير عبر شخصية سوهراب الدين، الدرويش الفارسي، الذي يتلبس سلوكه الغامض بالمبدأ المكيافيلي، ضمن ثالوث الوجود والعدم والحب.   «امرأة لا يسعها العالم»؛ أمثالها لسن ناقصات عقل، بل هن ببساطة مضطرات إلى التعامل مع أمر لا منطقيَّة فيه على الإطلاق؛ نزوات الرجال اللانهائيَّة ورغباتهم اللامحدودة المتأججة حتى في نومهم. وهذا المعنى المزدوج يشكل مدخلا لإيجاد العلاقة بين إدمان الراوي للخمر وجهله بمعنى الحب، ومن ثمَّ يقدم مفتاحا للقارئ كي يفهم الرؤى الشاطحة عن الاسكوكين، الذي يدرك في النص بوصفه «الحب القادر على تحريك الأفلاك» والقادر على منع «البقر» من السفر الى القمر، في حال تم فك قيوده واطلاقه للقيام بالمهمة. 

    ولكن لن يفك قيده سوى توحيد جذري الفهد والأسد، لأن المبدأ الشاماني وحده في التواصل بالحب ليس كافيا، بل سيحتاج الفهد إلى الأسد وكل قنوات اتصاله لتنفيذ المهمة. وترمز ميم الأسد إلى تحول الرجال الذين قاموا الحب في داخلهم ووهبوا أنفسهم لحب السلطة وتفضيل العقل، وتجسد ميم الفهد الصورة الذهنية عبر الأجيال للرجال الذين رفضوا عبودية السلطة ووهبوا أنفسهم للفن وكل أنواع الإبداع السامي. لذلك، يتحتم عليهما القيام بفعل واحد متزامن، ليكملا طقسا معينا يسمى بالتماهي الكوني، أو وليمة الحب السماوي. ويمكن تحديد هذا الطقس بأنه وسيلة لتبادل الأفكار والمشاعر الشمولية في العالم، وفي الوقت نفسه، وسيلة اتصال دينية لتلمس مشاعر الإيمان أثناء رحلة الانتقال من الهوية المكتسبة إلى المغايرة القائمة على التباين الفطري. 

    يتحكم الطقس في غرائز الفهد ورغبته الدائمة في الالتهام وتخزين الطعام من ناحية، ومن ناحية أخرى يسيطر على عملية التحول الروحاني للكائن الذي سيتم التضحية به، ليتحول من مجرد أضحية إلى الجسد المقدس؛ أي الوليمة التي يتغذى عليها التماهي الكوني نفسه. وفي هذا الصدد يستحضر «كاروميديسي» الشاعر «شافيلا» بعقله الشاماني في قصيدة آكل الثعابين، حيث اختار الأنموذج الفاوستي لتجسيد شخصية رجل عالم ببواطن الأمور، لسرد حياته الشخصية كوجه فهد شاماني. 

    يحول شافيلا لغته التأويلية البليغة إلى لغة مفهومة، لتعديل العلاقة القائمة بين أشكال الوجود الكائنة من جهة، والبشر باعتبارهم شكلا من أشكال الوجود، من جهة أخرى، وإعادة بنائها على أسس سليمة. ومن خلال قصة النمر الجريح الذي ينقذه الصياد من الموت، فتؤول إليه كل فريسة يقنصها الصياد، يؤطر «الفريسة» بوصفها كائناً كلي الوجود، متعدد الهيئات، ومانحا للحياة. وبذلك  يحول كلمة السر الشعرية إلى خبز وماء، بالاتكاء على رمزية حكاية رجلي عاموس حين قابلا المسيح؛ فلم يتعرفا على كلمة الرب حين أبصراها تمشي بين الناس، ولما قاسماها الخبز استطاعا رؤيتها، فيقترن التماهي الكوني بتلازم خاصتي التفكير والشعور عند البشر. 

    بفعل الطفرات التي شهدتها الهندسة في نهاية القرن التاسع عشر، اكتسبت العاطفة البشرية طابعا آليَّاً، ما عزز فرضية إصابة العقل البشري بفيروسات اقتصادية وسياسية، تسببت في الانفصال الحاد بينه وبين كافة أشكال الحياة العضوية، متجاهلا الدور الحيوي الذي تلعبه تلك الكائنات في تسيير الكون. فيستحضر «كاروميديسي» إيمان جورييف، المعروف بالنمر الأسود، بقدرة الطبيعة على بث شحنات الطاقة اللازمة لإذابة طبقة اللاوعي المتكلسة على سطح التروس الدائرة بقوة الحركة الميكانيكية للمعاناة البشرية. لتمنع الاضطراب الذهني لحشود البشر ونوبات الجنون التي تصيبهم بفعل تلك الطبقة المتكلّسة كلما ازداد تراكمها على الوعي، والذي يرمز له بصعود البقر إلى القمر، فالانقطاع الكمي يترجم بسقوط اللعنات.  يجسّد المؤلف الشيطاني «ستاك ريبيشفيزكي» أنموذجاً لرجال نهايات القرن العشرين، الذين فسروا الحب المتحرر بتعدد العلاقات وتزامنها. ولأن أمثاله حملوا هذا التفسير بمأساة الرجل الخاضع لنظام العبودية الأمومي الذي أدى إلى كبته وجعله أقل أهمية، فقد وجدوا في داجني نوعا من «التسمم الذي يصيب الفنان العبقري المبدع». ومن ثم، اعتبر هؤلاء النساء أوعية لحمل الطاقة المكبوتة التي تطلق فيهن طاقة قاهرة، ليقمن بممارستها على «الرجل الخاضع الذليل»، فأثارت فيهم مشاعر العبودية والكراهية للنساء، حتى أصبح قتل الرجل للمرأة رمزيا أو واقعيا شكلا من أشكال تحرر الرجل من تلك العبودية والكراهية. 

    ولذلك تمحور تحليل النفسية الذكورية شديدة التعقيد لرجال هذا العصر باتجاهين: تحرر الرجل من خلال امرأة، وعبودية الرجل لامرأة. وبسبب هيمنة الرمز الاسطوري الأنثوي على عقلية الرجل، واعتياد الرجال إضفاء صفات ألوهية أو شيطانية على شريكاتهم، غدا عشق امرأة كقتلها، فكلاهما يحرر النفس من العبودية. وهو ما يشكل مدخلا لسبر عقلية القاتل فلاد ايمريك، الذي سعى إلى تحقيق الفعل الجنسي من خلال الانتحار المزدوج. وكان قد اشترى داجني من ستاك بالعملة الصعبة، فتعاظم الخواء في داخلها حتى تكاثف في صورة زائفة لربة الخصب، أو المرأة الساحرة التي تختبر الوجود عن طريق الألم والمتعة المقترنة بالابتذال.

   يناقش «كاروميديسي» الوعي الموضوعي الذي يحظى به قلة من الأفراد ارتقوا إلى مرتبة القداسة، معتبرا العبقري الموسيقي باخ واحدا منهم، لأنه جسد تعبيرا خالصا للروح الجمعية. فقدراته غير المسبوقة كانت تؤدي وظائفها من دون وعي ذاتي، مثل قوى الطبيعة، لذلك اكتسبت سمات الطبيعة الكونيَّة نفسها. فبالنسبة له كان الفن من طقوس العبادة، مما صرفه عن الاهتمام بالعالم المادي والنجاح فيه. ولأنه اعتبر الفن غاية في حد ذاته، سعى خلف معرفة شكل الحياة التي تحياها الروح حين تتعالى على الحياة التي فُرضت عليها، فتعتبر مشاعرها المعقدة مجرد مراحل متباينة في ذلك التعالي على الحياة.

    تجتمع كل العناصر في حفل بصري سمعي، هدفه تشكيل الوعي الموضوعي، الذي يفترض أن يحطم العجز والركود، ويعيد حركة النمو التي عطلتها هيمنة وسيطرة الغرائز الآلية على الكائنات البشرية. فتحويل الزمان إلى فضاء مكاني نقي عن طريق الموسيقى يعزز التسامي الروحاني فتتعاظم قدرة البشر الإبداعيَّة على ابتكار أنظمة تعبيرية دلالية، تتشكل في هيئة كائنات سامية، تساعد في الحد من طبقة الغرائز الآلية المتكلسة والمدمرة للذات. 

    لكن بث الاسكوكين في الاتجاه الخاطئ صوب كوبا، الذي سيصبح اسمه ستالين، والذي كان يتلصص على الحفل من سور الحديقة، يمنح المشهد واقعيته كعرض بورجوازي همجي آخر. فتتحول الحفلة بفعل قنبلة يغرسها مساعده كامو إلى أنموذج ساذج آخر لنزع الأنسنة، فلا ينتهي مشروع الحداثة بأغنية الأغنيات، وإنما بصرخة الصرخات، حين يأتي شبح باهت ليقود البقرة إلى القمر، في إثبات لمقولة ستريندبيرغ «الكتابة حمل ثقيل وهمٌ عظيم، وزيف ووهم».

الهامش:

1 -  سوراب كاروميديسي (1957) ، باحث وروائي جورجي، نشرت روايته داجني أو وليمة حب سماوية في عام 2020 وصدرت ترجمتها العربية عن دار صفصافة عام 2022.