متعة الكتابة ومسرّة الأدب

ثقافة 2023/05/08
...

  ياسين طه حافظ

هل كان الأدب في بدئهِ إخباراً؟ لماذا إذاً كان أدباً؟ الإخبار (بكسر الهمزة)، فعل لغوي لا يستوجب فناً، قد يحتاج مهارة وقد لا يحتاج، المهم أنه لا يتطلب فناً كتابياً يحقق ما هو أكثر من الإخبار ولا بصياغة فنية يتجاوز بها مهمة أن يبلغ خبراً إلى مهام العمل الفني. وهذه لا تتحدد ودائماً تتسع وتتجاوز باتساع كماله. وكأي فن، لا نقول هذه وظيفته. لأنها أصلا ليست واحدة، وثانياً قد لا تكون مثل ما نعرف من وظائف. الفن يرفض أي وظيفة محددة، هو دائماً يقصد الأبعد منها. ولا أظن الكتابات الأولى، ومذ كانت تخطيطات على حجارة الكهف، إخباراً يابساً. فما اشارت له معروف ولا حاجة لأن يخبر به.

كان في الاشارة والرمز والشكل ما يخص الروح الإنساني، ما يعني «الأنا» لتأكيد حضورها في حال ومذاقها في حال وأنها غير ما حولها في حال. والعبارات في الأدب تدل على أمر وتهدف له. حتى إذا بدت متشابهة فالاشارة فيها لها عائديتها. عائدية إنسانية لأنا متوحدة، خائفة أو حائرة او تجهل ما يجري وتستغرب العالم. 

وحين تشابهت أشكال العبارات صارت تجمعات، أو لقاءات أو تتالي رموز. وجُمل اللغة الواحدة وإن توحدت في المضمون، مختلفة. الجملة التي اختارها هذا الكاتب غير تلك، وإن كان المضمون واحداً. وهي غير التي اختارها كاتب آخر، الصياغات تختلف لأن الارواح التي وراءها تختلف.

صناعة الأدب اكتسبت فنها لا من الالفاظ وحدها ولا من انماط الجمل وحدها، ولا من انماط التراكيب الكلامية وحدها، ولكن من هذه جميعها. وحتى الآن بانتظار أن تكتسب قدرات انتقاء عيّنات مفردة من حياة بكل هذا الاتساع والزحام، ومما لم يُرَ من عالم الانسان وعواطفه. هذه امثلة اوردها ريتشارد هوكرت: 

  السلمون يتساقط وبحار الماكريل مزدحمة.

كورديليا تجيب: لغو لغو!

  مارجريت ويكوكوس تصرخ: لا اكثر من هذا، كفى! 

وانحدرت نظرة سوينا على قوام جيرالد سكلز/ 

   بعد سنين الهجر كلها، لا يستطيع المرء ان..... /

هذه ليست جُمَلاً، ليست الفاظ منتظمة في تراكيب لغوية، فكل فقرة منها تشير الى عالم، الى حال انساني، الى وضع بشري، للحظات عيش. ولو أردنا نفصلها ونضعها في بيئتها وانتبهنا الى كم تحتاج الى جمل لتسبقها واخرى تُكمل الشرح والايضاح، وما بين هذه من فضاءات، إذاً لاحتجنا، فقط لعبارة «انظر له بعد سنين الهجر، الى صفحات وربما، حتى بذلك، لا تحضر بحيويتها وأساها وإيحائها. ليس صعباً القول إن فصلاً كاملاً قد لا يتمكن من احضار كل عالم بعض الجمل، وهي بهذا الايجاز.. نعم يجيء بعالم آخر أقل، أكبر، لكنه غير ذاك. المتشابهات ممكنة لكنها متشابهات والاختلاف كامن. بايجاز هي لا تظل بذلك الايحاء ولا بتلك الروح. ثم مستوى وكم التوقعات من الكتابة، هذان يعتمدان على الكاتب. وهنا تتفتح الدعوة اكثر الى ثقافة ادبية وفكرية، ثقافة احاطة بشؤون الحياة وفهم للوضع البشري. يغذّي المزيد من التوقعات، والتوقعات امتياز الكتابة!

هو مسعانا لامتلاك ادب اكثر خصباً وانسانية وهو طبعاً مسعى الآخرين لامتلاكه. وكل على قدر ما يستطيع تحقيقه. النوع والمستوى يتبلوران من الثقافة التي تغذيهما. وكيف يبدو العالم من زاوية نظر الكاتب او الفنان. 

تلك اولى خصائص العمل، ومذاقه الخاص مزيته الثانية. وتفوق البراعات الحِرفية في الصياغة شرطٌ للاحتفاظ بمزايا المنجز، وإلا ضاعت في النسيج اللغوي المتخلخل او الذي تتساقط من ثقوبه التجربة، فلا نعود نرى صناعة متماسكة ولا أفقاً. الخلْق الخاص يعني الكاتب الخاص وعالمه والفنان الخاص المختلف وعالمه.. اما الكتابة الزخرفية فلا تدل ولا تستكشف او تعكس. هي كتابة نعم ولكنها قريبة من اللعب الجميل..تأكيد الاهتمام، من ثم الاحتفاء بالكتابات الادبية الجليلة والجميلة، كما الفنون المهمة ذوات الامتياز، تأتي جواباً كريماً على عمل قام به، وهو الاحاطة بالتجربة الانسانية للمجتمعات، وإن كانت عبر الانسان

فرداً. 

من دون الادب والفن سيتضح جسيماً حجم ومدى الخسارة. المجتمعات وافرادها يعيشون زمناً ويمضون. ليس غير الكتابة الادبية والفن يقدمان التجربة و»الاوضاع» التي كان بها الانسان بدقة واكتمال مريحين. فالثناء ليس مجاناً وبغير مقابل، كما عدم الرضا او الذم ليسا بلا سبب. على العكس هما سبب اسف على خسارةِ ولا جدوى عمل.

وهنا تعترض اشارة عن غائية العمل. أرى في مقولة الادب نقد للحياة، مرادفة للاهتمام بنماذج وعينات وامثلة من الشخوص والاشياء والاجواء، من حيث يكون الإنسان. احتواء تجربة غنية فضلى نتمناه ورفض ضمني لخلافه. في الادب او نقد الحياة، انتقاء امثلة ونماذج معهما رغبتنا الدائمة في امتلاك حياة افضل أو أجمل وعدم ارتياحنا من السوء أو الظرف الخطأ الذي كان. ما هو مؤكد أن كل كاتب وكل فنان يريد تحقيق هذه الافاق وأن يقدم التجربة الإنسانية التي اختارها بافضل وادق، بل وباجمل صورة، ويوفر لها ما يمنحها ديمومة لاطول زمن. ولعل اختلاف الاساليب واختلاف المستويات تتأتّى من تنوع مديات هذه الجهود والمساعي ومدى ونوع الثقافة التي يترعرع من خصبها

العمل. لكن القارئ للأدب والمتأمل للوحة لا يرى كيف يعمل الكاتب وكيف يجتهد ويعمل الفنان، هو يرى نتاجاً ويتمنى ان يكون جيداً ويفرحه ان يكون باهراً. وإن كان ثمة أسف فهو أسف وليس

كراهية.