حسن العاني
إذا لم تخذلني الذاكرة فإنه شهر يعود إلى عام (2003)، أغلب الظن أنه تشرين الثاني، أي بعد سبعة أشهر تقريباً على (ثورة التاسع من نيسان المجيدة)، كانت معالم الاحتلال الأميركي للعراق قائمة بأعلى مظاهرها العلنية، مفارز ونقاط سيطرة ودبابات وجنود يستأذنون بالدخول إلى منازلنا بحثاً عن أسلحة مخبأة..
بعيداً عن الخوض في تفاصيل تلك المرحلة التي تعود إلى عشرين سنة، فقد كان مشهد المحتل يتبختر في شوارعنا وأزقتنا وفوق سطوحنا وكأنه ابن البلد وصاحب الأرض والحاكم بأمر الله، يوجع ضمائر العراقيين – يستثنى العملاء من هذا الوجع لأنهم من دون ضمائر – وتشاء المصادفات أن تكون داري في موقع يطل على فسحة واسعة من الأرض، أقام الأميركان في أحد أركانها نقطة سيطرة أحاطوها بالأسيجة والمستلزمات الأمنية.
الطريق من بيتي إلى مقر عملي تمر عبر هذه الطريق ذهاباً وإياباً، وقد لاحظت بمرور الأيام أن الجنرال المسؤول عن النقطة يبادرني بالسلام من مكانه البعيد نسبياً عن مروري، ورأيت أن الأجدر بإلقاء التحية هو أنا انسجاماً مع أخلاقيات وشرعيات الدين الإسلامي، وهكذا بدأت –على مضض- ارفع يدي فيرد عليها بأحسن منها، وبلغ اهتمامه بي أن راح يستدرجني شيئاً فشيئاً حتى رحنا نقف بضع دقائق نتبادل فيها أطراف الحديث، ولم تلبث تلك العلاقة السطحية الطارئة أن تحولت إلى جلسات طويلة تستغرق أحياناً أكثر من ساعة نمضيها في غرفته الخاصة على أنواع المشروبات الساخنة والعصائر والمعجنات (التي لم يخلق مثلها في البلاد)، واكتشفت أن ذلك الجنرال الأنيق يتحدث العربية الفصحى بطريقة المستشرقين، ويتحلى بأعلى درجات التهذيب والتواضع والثقافة، وأشهد أنه سحرني بوفرة معلوماته عن العراق، وكان يحفظ عشرات المئات من القصائد والأبيات الشعرية للمتنبي والجواهري والسياب وسعدي يوسف، ولكن أكثر ما أدهشني فيه هو عشقه الغريب لآثار العراق والتنوع النادر في بيئته التي تجمع بين السهول والصحارى والجبال والأهوار والأنهار، وقد حدثني غير مرة عن مواقع آثارية عظيمة، وأماكن سياحية مذهلة الجمال لم أسمع بها أنا ابن البلد، وأمام هذه العلاقة التي اتسعت إلى أبعد مدى، وجدتها فرصة ذهبية نادرة لأسأله عن موعد مغادرتهم العراق لكي يتحرر العراقيون من أقدام الاحتلال التي تطأ أرضهم وتوجع كرامتهم، أجابني مبتسماً [هل من المعقول أن نغادر هذه الجنة؟ لقد جئنا لنبقى!] وحين لاحظ امتعاضي الشديد ونهوضي لمغادرة المكان، قال لي بلهجة (يبدو) عليها المزاح [أرجوك لا تنزعج، سنرحل عن بلادكم من الباب ونرجع من الشباك!] ترى هل كان الجنرال يمزح حقاً؟!.