محمد الوهيبي: لوحات الإنسانيَّة والجمال

ثقافة 2023/05/10
...

 علي العقباني


سليل تاريخ عريق لمنطقة بلاد الشام، بعيداً عن المناطقية الضيقة، رسام الوجوه والأمكنة والمدن الافتراضية على نحو مشتهى وذو أثر في الذاكرة والروح، الأم التي تهب اللوحة حضوراً ومكاناً ورائحة لا يمكن التحرر من حضورها وسطوتها وجمالها أيضاً...تلك بعض ملامح الفنان الفلسطيني محمد الوهيبي، رساماً وعازفاً وانساناً، غريباً عن الأرض التي ولد وعاش  واشتهى أن يشم رائحتها ويلثم ترابها وهو الذي جعلنا نراها كل لحظة نرى أو نلمس سطح احدى لوحاته الموسومة بأسلوب وتقنية خاصة ميزت الوهيبي عبر مسيرته الفنية الطويلة.

تفرد الوهيبي بأسلوب خاص ميز تجربته الفنية عبر  مراحلها المتنوعة والثرية واستطاع اكتشاف صورة بصرية جديدة بالفن التشكيلي بتكنيك خاص تميز به عن غيره من الفنانين المجايلين لمرحلته عربياً وفلسطينياً.

 الفنان التشكيلي الفلسطيني السوري محمد الوهيبي من مواليد 1947 طبريا وهو الذي عاش وعائلته بعد نكبة 1948 في مخيم خان الشيخ للنازحين في دمشق، ألتحق متأخراً بكلية الفنون الجميلة بدمشق، عام 1980، وتخرج من قسم الحفر – الغرافيك متفوقاً ومتميزاً بمشاركاته في المعارض الجماعية مع زملائه الفنانين، ومحققاً معرضه الفردي الأول، عام 1987، في حلب، وأتبعه بمعرض آخر في صالة ناجي العلي، عام 1990، بدمشق، لتبدأ من هنا مرحلة جديدة من حياة الفنان المنتج للوحة الغرافيكية التي تحمل خصوصية هذا الفنان وتدل عليه.. هذه اللوحة التي لا تخلو من عناصر وتمائم ورموز بدوية وشعبية تروي حكاية ألف ليلة وليلة، وتتحدث عن بشر يحبون ويبنون مدنهم ومعابدهم ويحبون نساءهم ويزرعون الزيتون ويتوسمون خيراً بالغيم ورائحة البخور والولادات.. ربما هي حكايات الجدة والحكيم والجميلات من النساء العاشقات كما يقول عنه الناقد والفنان التشكيلي أكسم 

الطلاع.

في لوحاته تتجلى الذاكرة الشعبية الفلسطينية. وقصص السرد في حكايات العجائز واستخدم بكثرة الإشارات والمواربة لتقديم المعنى. حيث أبدع لوحات حفرية ملونة ولوحات تشكيلية حملت بصمته الخاصّة ليعبر عن حالات إنسانية كان وطنه الأم فلسطين حاضراً فيها بقوة.

أحب الوهيبي الارتباط بالتراث المحلي زمانياً ومكانياً، وأهتم بالتراث الفلكلوري الفلسطيني خاصة، ولذلك تظهر المرأة عنده بالزي الرسمي بتراثها، الذي لا يموت ويعكس ومضات الموروث الشعبي الفلسطيني.

ينتمي الوهيبي بحسب ما يوصف نفسه دائماً إلى الأساطير والشرقيات التي تظهر فيها الحضارة الغابرة والماضي التليد، هذا الماضي يسكن أعماقي، يقول الوهيبي في أحد لقاءاته الصحفية، ويضيف  يجعلني ذلك أجسّد مدينتي القديمة الضائعة بروح خيالية غنية بإحساسي وفضائي الواسع وخطوطي وألواني وأحلامي، طبريا مدينتي، وفلسطين حاضرة بذاكرتي يجول بخاطري الحي، والأشخاص، الذين أعرفهم ولا أعرفهم سواء أكانوا أحياءً أم أمواتاً، أحب أن أجسّد المنطقة الجيولوجية الجغرافية للبحيرة، وسطح البحيرة والجدران والدور، كلها أماكن غير منسية، أراها الآن حزينة تغرق بالقصف والدمار والدم والحزن، هذه الأعمال تمثل جزءاً كبيراً من تاريخي الفني والإنساني.

استطاع الفنان الراحل محمد الوهيبي، فنان الجمال والإحساس الدافئ، صاحب التجربة الثرية والفريدة والمتنوعة، وعبر تجربته الفنية الطويلة والمتنوعة، أن يترك أثراً في الساحة التشكيلية من خلال مساهماته الكثيرة في المعارض سواء الفردية أو المشتركة حتى أن اسمه أصبح من الأسماء التي يشار لها بالبنان في عالم الفن التشكيلي المعاصر.

ساهم الوهيبي الذي توفي في برلين، صيف 2015، في تطوير الحركة التشكيلية في سورية في فترة الثمانينيات من القرن الماضي مع رواد تلك المرحلة حيث شارك في أكثر من عشرين معرضا فرديا كان آخرها عام 2010 وعدد كبير من المعارض الجماعية كان آخرها معرض الخريف السنوي العام الماضي.