اللوحة الأخيرة

ثقافة 2023/05/10
...

 سالم الخياط

  ذات صباح مشمس ذهبت إلى مقهى الأدباء في العشار، وبعدما جلست وتداولت الحديث مع الأصدقاء، نظرت إلى جدران المقهى، التي علقت عليها لوحات وبورتريهات لأدباء وشعراء غادروا الحياة، جذبت انتباهي وأثارت فضولي لوحتا الشاعر مظفر النواب والقاص محمود عبد الوهاب، كان بالقرب مني أحد الأدباء، فتساءلت: مَن هذا الرسام الذي قام بهذا العمل المتفرّد، رد بابتسامة لا تخلو من الاستغراب.

وقال مستفهماً :هذا الرسام القاتل البريء، الذي مارس شتى أنواع الرسومات، وكانت فرشاته تبتكر أجمل الألوان وتتناغم مع الإحساس الذي يتمتع به، لكن يقال عنه كلما رسم شخصا يتوفاه الأجل!.  انظر هذه الصورة الصغيرة، للأديب والكاتب الذي لا يؤمن بهذا القدر، وقال أنا أريده أن يرسمني وأتحدى قدري، جاء وأعطاه صورته الشخصية، وأثنى عليه، وقال أنت رسام بارع، لا تهتم بهذه التفاهات، وطلب من صديقه أن يستعجل برسمه بعدما أكمل صورته بأيام عدّة استلمها الأديب فرحًا..وبعد فترة وجيزة من الزمن، في يوم شتائي بارد ممطر، كان يسير في زقاق ضيّق انزلقت قدمه، وسقط قرب عمود النور، وأثناء قيامه أمسك بالعمود الرطب المشبع بالماء، ارتجّ جسده، وتطايرت أوراقه، فوقعت الصورة، صرخ، لكن لم يخرج من فمه صوت، بدأ الزبد يخرج من فمه وأسنانه تصطك، تجمهر الناس وهم خائفون من التقرب منه ينظرون إليه كيف يحتضن العمود، وعيناه تتلصّصان نحوهم ثم تزوغ نحوه الصورة، كان يتمنى أن يصرخ  لكن لا يقدر أن يبوح بشيء عن قدره المحتوم..أيضًا رسم أخوه واستشهد في الجيش، وذات مرّة رسم حبيبته التي كان يتمنّاها وقد توفيت بحادث أليم كانت هذه اللحظة أشد إيلاماً في حياته..حتى بدأ الناس يخافون أن يرسمهم، وفي يوم من الأيام كنت جالسًا في المقهى ذاته، حين حضر بهندامه غير المنسق، وربطة عنق مرتخية، وشعر كثيف، قال يسرّني أن أطلب منك صورة شخصية لأرسمها لك، حقيقة الأمر أصابني الذعر، لكنّه أخذ يصرّ على طلبه، سكت عن الكلام، وانتابني شعور بالفزع، قلت سوف أجلبها لك غدًا، عرف أني كنت أراوغه، ابتسم لي، وأخذ ينظر بعينيه الواسعتين من خلال نظارته، واكتفى بإيماءة من رأسه..ثمّ قلت لنفسي ما هذا السخف! ونفضت الفكرة عن رأسي تمامًا، وقلت أن تكون فنّانًا وأديبًا، وتحركك الإنسانية بجمالها وواقعيتها وطقوسها فلماذا الخوف!.كان في تلك اللحظة يجالسني صديقي الشاعر، همس لي، وقال متلطّفًا أن أعطيت صورتك فسأودعك قريبًا يا صديقي العزيز، وسأرى صورتك معلّقة في المقهى وراح يقهقه..نعم يا صديقي، يوجد أناس منحوسون، يسيرون عكس الاتجاه هذا أحدهم، يطارده النحس ويفتك بلحظاته السعيدة ويقلب أموره رأساً على عقب، ثم أخذ يغيّر أسلوب حياته غير الطبيعي تدريجيًا، وبعد فترة من الزمن سمعت أنه اشترك مع صديقه عازف الكمان، وبعض الفنانين بفتح مرسم اسمه زيوس، وبدأ بالانزواء والابتعاد عن الناس، ليقضي معظم وقته في ورشة رسم اللوحات الاستشراقية والانطباعية والسريالية أيضًا، ليعيش منها، وابتعد عن رسم الأشخاص..في يومٍ ما أراد أن يبعد النحس عنه، ويهرب من الأفكار السلبية ويبتعد عن التشاؤم ويثبت للناس غير ذلك، فقرّر أن يرسم نفسه، ذهب مساء إلى مكان المشغل، وبدأ مع صديقه يتلاطف ويحتسي بعض الكؤوس معه، عزف الكمان، وتطايرت الأنغام، ووضع مسند الرسم وقماشة الكانفاس الناعمة، وهو خائف، يعيش فترة اكتئاب، أخذ يردّد: أريد أن أقضي على ما تبقى من حياتي، وسوء حظي الطالح إذا كان بهذه الصورة المتعثرة، أو أعيد ثقتي فيه، لقد أتعبني كلام الناس.ثم قال صديقه العازف: أراك قلقًا مضطرباً، انظر مرسمك وفنونك التشكيلية كلّ هذه اللوحات الجميلة بألوانها ومواضيعها المتنوّعة التي رسمتها بإلهام من الطبيعة، وخيال محترف، حتى صور التعرّي في مرسمك، وما زالت فرشتك رطبه يا صديقي العزيز، وخوفك من رسم البورتريهات ليس في محلّه، قد يكون فقط صدفة لا أكثر، وأترك كلمة اللعنة التي تلاحقك، هي أفكار وهمية مغلوطة، لا تخف، إن الله وحده الذي يقرّر المصائر، دع أناملك ترسم الإبداع، وأعد ثقتك بنفسك.تفوّه بكلمات متلعثمة: حسنًا، سوف أرسم صورتي الشخصية وإن مت، فيعني أنني منحوس، وإن عشت فأنت شاهدي على ذلك يا صديقي..جلس على كرسيه، وأمسك قلمه ليرسم نفسه، وتذكّر فنّانين كثر رسموا الذات، منهم دافنشي فان كوخ بيكاسو وغيره كثر، كان صديقه يراقب كيف يتجاوز محنته هذه، بدأ يرسم بيد مرتعشة سببها الضغط النفسي والخوف ممّا يدور بعقله، ثم طلب من صديقه العزف ليتسنّى له الرسم، على أنغام الموسيقى، في بادئ الأمر حاول أن يسيطر على يده من الارتعاش، بدأ بالتخطيط، لكنّه لم يقدر مسك فرشاته حاول عدّة مرات، وأخيرًا استخدم يده المرتعشة، أخذ يبتسم ويهز رأسه بايحاءات غير منضبطة..عازف الكمان ينظر بألم وحسرة، عن فقدان الشغف الحسّي والإبداع لدى صديقه أثناء الرسم، وما الذي يريد أن يصل إليه بأدائه برسم صورته الشخصية، وهو خائف متوجّس، متيقّن بحدسه حين أكمل لوحته، غادر المكان، وبعد فترة علّقت صورته على الجدار بين صور الراحلين.