رحيل الأديب السوري الكبير حيدر حيدر.. ترك نشيده ولحق بنوارسه المهاجرة بعيداً عن أعشاب البحر

ثقافة 2023/05/10
...

 دمشق: علي العقباني

ببساطة وألمٍ ووجعٍ لا يكتفي الفقدان بجعلنا كائنات هشة وربما بليدة أحياناً مستاءة من التاريخ والغياب والموت والفجيعة والخسارات، كأنما أمواجٌ تتلاطم على أوجه الحياة فتحيلنا إلى كائنات وداعٍ لراحلين موتى أو مهاجرين أو هاربين أو مختبئين، هكذا يُلقي حيد حيدر وليمة أعشابه المنحدرة من جبال طرطوس إلى أعماق البحر المتوسط روحه صاعداً بها سماوات الكتابة والرأي والحياة والرواية.
هكذا يلقي لنا صاحب “وليمة لأعشاب البحر” وليمته الأخيرة تاركاً لنا كماً كبيراً من الأسئلة والروايات والفجائع والأحلام، هكذا يرحل حيدر حيدر أحد أعمدة الرواية العربيَّة في القرن العشرين، فيصبح العام بارداً وبلا غناء، ولا نسمع من بعيد سوى غناء طائر مستوحش في وحدته ينشد حقلاً أخضر ومياه بحر بلا حدود، يتركنا في هذا “الزمن الموحش” عراة وسط الأسئلة والموت والرحيل، وها هي “الوعول” تغادر غاباتها وتترك فيضان البحر على شواطئ اللهفة وحيداً.

78 عاماً عاشها حيدر حيدر يكتب الروايات والقصص ويناضل كمثقفٍ ثوري عمل في الجبهات وقاتل مناضلاً ضمن صفوف المقاومة الفلسطينية وكتب وأثار زوابع من الحوارات والنقاشات حول الأدب والرواية والثورة والنضال والمثقف والثقافة وفلسطين فكانت “أوراق المنفى”.

ولد حيدر حيدر عام 1936 في قرية حصين البحر التابعة لمحافظة طرطوس، تلقى تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، وتابع تعليمه الإعدادي في مدينة طرطوس عام 1951، ثمّ تابع دراسته وتخرج في معهد المعلمين التربوي في مدينة حلب عام 1954 وهو كاتبٌ وروائيٌ سوريٌّ تميز بشخصيته المتمردة وأسلوبه المتميز والمتفرد في الكتابة والأسلوب، ونُشرت أولى محاولاته القصصية بعنوان “مدارا” في مجلةٍ محليةٍ في مدينة حلب، وكان ذلك بعد تلقيه تشجيعًا كبيرًا من مدرسه للغة العربية والعديد من الأصدقاء المحيطين به، إذ بانت اهتماماته الأدبية في ثاني عامٍ دراسي له، وبدأ بتنمية موهبته الأدبيَّة منذ ذلك الوقت.

امتهن التدريس لفترةٍ من الزمن بعد تخرجه، وانتقل لاحقًا إلى دمشق العاصمة بغية الاندماج مع مناخها الأدبي والتعاطي مع كتاب ومثقفين من شتّى التوجهات والاهتمامات.

كتبَ أولى قصصه الأدبية بعنوان “حكايا النورس المهاجر” عام 1968، ونُشرت في مجلّة الآداب اللبنانيَّة التي استعان بها بدايةً لنشر أغلب قصصه ومؤلفاته.

كان حيدر حيدر مؤسسًا وعضواً لاتحاد الكتّاب العرب عام 1968 وعمل في مكتبه التنفيذيّ، وكان مؤلف “الومض” لعام 1970، أولى منشورات هذا الاتحاد.

تابع مسيرته الأدبيَّة في الجزائر بعد أنْ سافر إليها عام 1970، وعمل مدرسًا في مدينة عنابة، مشاركًا في الثورة الثقافيَّة الجزائريَّة.

استغرق في كتابة أولى رواياته سبع سنين، وكانت بعنوان “الزمن المتوحش”، ونشرتها دار العودة في لبنان عام 1973، مستوحيًا مضمون الرواية من تجربته في مدينة دمشق ومناخها الثقافي والسياسي.

عمل لاحقًا كمصححٍ لغوي في لبنان، التي هاجر إليها بعد عودته إلى دمشق واستقالته من مهنة التدريس، وأضاف هناك مجموعة “الفيضان” القصصيَّة إلى قائمة أعماله التي أصدرها اتحاد الكتاب الفلسطيني عام 1975.

التحق حيدر حيدر بالمقاومة الفلسطينيَّة من خلال الإعلام الفلسطيني الموحد واتحاد الكتّاب الفلسطينيين في بيروت وكان ذلك متزامنًا مع بداية الحرب اللبنانيَّة، وخلال فترة الحرب نُشرت روايةٌ له بعنوان “التموّجات” و”الوعول”، وفُصِلت روايتا “الزمن المتوحش” و”الفهد” عن مجموعة “حكايا النورس المهاجر” ونُشِرتا بشكلٍ مستقل، كما أعادت دار الحقائق في بيروت طباعة ونشر “حكايا النورس” و”الومض”.

هاجر حيدر حيدر من بيروت إلى قبرص، وعمل هناك في مجلة الموقف العربي الأسبوعيَة في أوائل الثمانينيات، عاد بعد عامين إلى بيروت بعد أنْ قضى تلك الفترة مسؤولًا عن القسم الثقافي في المجلّة.

عاد ثانيةً إلى قبرص ليعمل مسؤولًا عن القسم الثقافي في مجلة “صوت البلاد” الفلسطينيَّة كردة فعلٍ لإلغاء ورحيل المقاومة الفلسطينيَّة عن بيروت عام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي، وفي العام 1984 نشر أول طبعةٍ لرواية “وليمة لأعشاب البحر.. نشيد الموت” في قبرص، وهي الرواية التي حلل الأصوليون دمه من أجلها، لكنهم فشلوا في إسكات الكلمات عن أنْ تحلق في سماوات الحرية والألق، ليعود بعدها إلى سورية الوطن ليتفرغ لعمله الأدبي ويعود إلى بيته في حصين البحر والذي يسكنه منذ العام 1985 بعد عودته من أسفاره الطويلة بين دمشق وبيروت والجزائر وقبرص وباريس.

تقوم تجربة حيدر حيدر الروائيَّة في روايته “وليمة لأعشاب البحر” والتي أثارت ضجة كبيرة في مصر أدت إلى إهدار دمه من قبل الأزهر، على أحداث لم يعشها هو، في مدنٍ عراقيَّة وجزائريَّة وهو السوري، ووصف فيها حيدر حياة العراقيين في جنوب العراق في الأهوار والمستنقعات وتحدث عن مشكلاتهم كأنّه عراقي، وهو الروائي السوري الذي تناول هماً عربياً وغاص في مشكلات لا ناقة له فيها ولا جمل في العراق والجزائر وهذا يدلُّ على اتساع أفق الرؤية عنده وإنسانيته اللامحدودة.

وكما حال الكثير من المثقفين في بلادنا والذين كانوا صدى لطلائع ما بعد الثورة الفرنسيَّة. حينها كان حيدر ورفاقه يفكرون في تغيير وتبديل الواقع القائم، واليوم يقول حيدر: أصبحنا في وضع العالم كله يرثينا عليه. فهناك الخراب الثقافي، والخراب الاجتماعي، والدمار الاقتصادي

كان حيدر واحداً مع أبناء جيلٍ أدبي مميزٍ في تجاربه وأفكاره وأحلامه، والذين أدخلوا مفاهيم الرواية الحديثة بعد أنْ عرفت الرواية الاجتماعيَّة الوصفيَّة التي كانت تُعنى بالأحداث والوقائع، هذا الجيل أدخل تغييراً جذرياً على الرواية السوريَّة اسمه “الأسلوب التعبيري” الذي اهتمَّ بالعالم الداخلي، وحول هذا يقول حيدر: الرواية التعبيريَّة التي كتبتها دخلت في مجالات علم النفس واللاشعور الفردي والجماعي، الأحلام والكوابيس عند الإنسان. لقد كان الزمن في الرواية الوصفيَّة الاجتماعيَّة يجري بشكل وقائع يوميَّة مملة، على عكس الرواية التعبيريَّة التي أحالت الزمن المستمر إلى زمنٍ متناوبٍ ومتقطع، فلم يعد لديّ الزمن مستمراً، بل مموّجٌ ويظهر هذا التغيير في أسلوب تيار الوعي عند جويس وبروست وفوكنر وفرجيينا وولف، أضف إلى أنَّ الذاكرة هنا أمست ذاكرة متنقلة، هذا الأسلوب واحدٌ من التغييرات الجذريَّة في الرواية العربيَّة.

روايته “الفهد” تحولت إلى فيلمٍ سينمائي لاقى شهرة واسعة في العالم العربي.

صدرت الطبعة الأولى لروايته “مرايا النار، فصل الختام” عام 1992 من دار أمواج في بيروت، أما روايته “شموس الغجر” فقد صدرت طبعتها الأولى عام 1997 من دار ورد في دمشق.

بعد الأحداث التي جرت في سورية والعالم العربي منذ العام 2011، مثلها مثل اليمن وليبيا والعراق ولبنان، يقول حيدر: لقد طال هذا الوضع حتى الحيز الجغرافي لهذه البلاد. فأين وكيف يبقى لنا أي أملٍ أو إمكانية الخروج من هذا الوضع غير الإنساني وغير المعقول؟ اليوم حتى الحيوانات تعيش أحسن منَّا. أصابتنا شروخٌ عميقة جداً، أولها الجريمة الطائفيَّة التي عمَّت بلاد العرب، ولم تحدث إلا في العصور المنقرضة، وما قبل الاستقلال، وبدل الولاء للوطن صار الولاء للطائفة.

روايته الأخيرة “مفقود” اختار لكتابتها الأسلوب الوثائقي وعنها يقول حيدر: “(مفقود) رواية وثائقيَّة، والصوت فيها كان عالياً ضد الطائفيَّة والإرهاب، فالوطنيَّة هي الأساس، والشعور أنكَ ضد هذا الإرهاب الذي يحدث في الداخل والخارج على حدٍ سواء دفعني إلى تحقيقها، لهذا كتبتُ (مفقود) كموقفٍ كان عليّ أنْ أسجّله، وبراءة ذمة من هذا الجنون، ومن هذه الطائفيَّة الحقيرة والبغيضة. كانت مفقود إدانة لكل الأطراف التي أسهمت في قتل المواطن السوري، ومحاولة إذلاله”.

كتابه الأخير (يوميات الضوء والمنفى) التي صدر عن دار ورد بدمشق، سيرة ذاتيَّة، وفيها يكتب حيدر مسيرته منذ خروجه من القرية إلى طرطوس، وبعدها إلى حلب، ومنها إلى دمشق وبيروت، وصولاً إلى قبرص والجزائر وباريس. هي سيرة وقائع مديدة وطويلة، وفيها يكشف عن أسرارٍ للمرة الأولى.

مختصر القول هي رحلة حياة خلال أكثر من نصف قرنٍ منذ رحل فيها عن “حصين البحر” وعاد إليها عام 1985.