تقديس نزار قباني وتدنيسه

ثقافة 2023/05/10
...

عادل الصويري



جاءت ذكرى وفاة الشاعر السوري نزار قباني في الثلاثين من نيسان بانقسام فني حاد في وسائل التواصل، بين مؤيدي التجربة النزارية ومنتقديها. ومرة أخرى نثبت نحن العرب أننا أسارى الانفعال اللحظي، وإطلاق الأحكام التي تمثل ردّاً على أحكام مضادة أُطْلِقت هي الأخرى بانفعال، فصارت تجربة نزار قباني حلبة مفتوحة لصراع لا قيمة له من الناحية الفنية. ولا أعرف لماذا لا يتم النظر لأي ظاهرة إبداعية بما لها وما عليها؛ لكي يكون التقييم موضوعيَّاً، بدلاً من هذه الإنشاءات العاطفية التقديسية على المواقع التواصلية، وبدلاً من الإلغاء المجّاني لكامل التجربة؛ لأسباب غير مقنعة، وغير فنية بالمرة.
من المضحك جداَ اختزال الشعر العربي في قديمه وحديثه بالمتنبي ونزار مع إضافة أسماء أخرى مثل النابغة، أو امرئ القيس. وفق أي معيار فني أو ذوقي يتم ذلك؟ وأصحاب هذا الاختزال ليسوا من عامة الناس، لا بل هم شعراء، وهذا هو المضحك المبكي في الموضوع، فواحدهم في أقل تقدير اطّلع على تجربة عشرين شاعرا آخر من الزمنين القديم والحديث، فهل يُعقل مثل هذا الاختزال؟ ولماذا يصبح هوسُ نساءٍ مكبوتةِ الغرائزِ بقصائد نزار الحِسِّيَّة معياراً لتقييم التجربة من شعراء، يُفترض أنَّهم محترفون؟ عشاق نزار من الشعراء يبدو أنهم يريدون أكتاف قصائده حتى مع وجود أخطائها الفنية؛ للصعود إلى عشيقاته.

أما الطرف المقابل، فقد اكتفى للنيل من نزار قباني، برؤية عامة أطلقها أدونيس في لقاء تلفزيوني تتعلق بجماهيرية الشاعر حين قال : “ إنَّ الجمهور أكذوبة فنية، أنا أقيس مستوى تدني الشاعر بكثرة جماهيره” وحين ناقشته المذيعة، واحتجت عليه بجماهير نزار قباني قال: “جمهور نزار حجاب على شعره، وجمهور نزار يحب السيئ والمبتذل وليس الجيد من شعره”، وهنا أعتقد بأن أدونيس سقط في فخ التعميم حين جعل جمهور نزار من طبقة واحدة ساذجة وهذا ليس بصحيح.

وكما قلنا: كل تجربة إبداعية، لها ما لها؛ وعليها ما عليها. أنا مثلاً تنتابني الدهشةُ في أعلى درجاتها حين أقرأ مطوَّلة نزار قباني (سامبا)، فذلك التنويع المضغوط بالتقفية عبر مقاطع قصيرة يحكمها إيقاع واحد وهو إيقاع (الرَمل) أمر ليس بالعادي، فضلاً عن مهارة نزار في تدعيم مشاهد مطوّلته بالدراما التي تغري بتتبع حلقاتها إلى النهاية:

“بالجوارحْ /  أذرعُ  سمرٌ وبيضُ / هزها الدفُّ النبيضُ / كمراوح 

أيُّ مغزل؟ / حاك أكتافاً عرايا / هي في الليلِ مرايا تتنقَّل

وطويلةْ / مثلما ينهض سيفُ / عريُها نصف ونصفُ / كالخميلة

تلك غادةْ / مثل ثعبانٍ تلوى / وهو يطويها فتُطوى / كوسادةْ

ووسيمْ / شك في العروة وردة / رفَّ في أنفس وردة / كالنسيم

يا لنهدِ، نزق المنقارِ أبيضْ / مثل عصفورٍ تَنَفَّضْ / مثلَ وردِ

تلك سامبا / نقلةٌ  ثمَّ انحناءةْ / فالمصابيحُ المضاءةْ / تتصبى 

ما علينا؟ إن رقصناها معا / ودفنا الأضلعا / وانطفينا

واختفينا، أنت / في قرميد نجمةْ / وأنا في قطن غيمةْ / ما علينا؟

لو رقصنا، ليلنا حتى التلاشي / وحملنا كجنازات الفراشِ ؟”

وبالمقابل أُصاب بالخيبة حين أكتشف أنَّ هذا الشاعر، وفي لحظة انحياز قومي ضيّق، سقط في فخ السذاجة بطفولة غير محسوبة. فقد عُرِفَ عنه محاكاة مشاعر النساء، وهواجسهن، والاقتراب من حريرِ أنوثتهِنَّ، وإذا به يصف أنثى جميلة صادفها في مدينة احتلَّها العرب المسلمون تحت مسمى بائس، فيقيم حواراً لطيفاً قبل أن يصدمنا بقوله : “عانقتُ فيها عندما وَدَّعْتُها... رَجُلاً يُسَمّى طارقَ ابْنَ زيادِ). كيف حدث ذلك؟ هل فهم نزار النساء؟ وهل يفهم ما معنى أن تُشَبِّهَ أنثى رقيقة بجنرال عسكري؟.

كما أتساءلُ عن سر إقحام مثل هذا البيت: (إن كان عندي ما أقولُ فإنَّني... سأقولُهُ للواحدِ القهّارِ) في قصيدة القرار التي أراها عادية جداً، ومع ذلك فإنَّ تتبع سياق القصيدة يقول إن هذا البيت لا معنى لوجوده مطلقاً.

وما يجري على نزار قباني، يجري على كل التجارب والظواهر الإبداعية والجمالية التي تشكلت عليها ذاكرتنا، وكبر عليها ذوقنا. 

فيروز وهي حبيبة صباحاتنا الغنائية، ورسائلنا المموسقة لحبيباتنا، جعلتنا نرى العصفور ونبتهج له (نَفَّض جناحاتو ع شباك الدار)، هي ذاتها التي حَشَّشَت علينا بقولِها : (واحد عم ياكل خس.. واحد عم ياكل تين). ولابد من القول إنَّ الافراط في تقديس التجربة – أي تجربة – أو إلغائها؛ ما هو إلا كرنفال استعراضي عام لأكل الخس!.