الفلسفة وصناعة الدولة

ثقافة 2023/05/10
...

 

حازم رعد 


لا غرابة من تداخل ما هو فلسفي مع ما هو سلطوي - دولة، فالأخير كيان اعتباري ومجموعة من المفاهيم والأنساق التي صنعها الفلاسفة عبر تاريخ طويل من النضال والنضج الفلسفي المشدود بهاجس الحاجة وضرورة التطوير .

إن للفلسفة حضورا مباشرا في صناعة الدولة فالمتابع لتاريخ الفكر الفلسفي وتاريخ نشوء البلدان يسهل عليه تصور ذلك، فإن مفاهيم ومفردات الدولة كما هي كذلك مفردات ومفاهيم العلوم، هي صناعة حصرية للفلسفة،


فمفاهيم مثل [ الجمهورية والمدينة الفاضلة والقوانين والديمقراطية والدكتاتورية والاستبداد وأصناف الأمراء وأشكال الحكم] كلها مفاهيم غطت الفلسفة اجتراحها، فالعيش والممارسة تسبقهما فكرة، فالفلسفة كما يرى جورج زيناتي [ ما وضع حجر على حجر ولا بنيت حضارة إلا وقد سبقتها فكرة أو فلسفة لذلك ]، وليس في ذلكم صعوبة في فهمه واستيعابه، وجرت عادة الفلسفة على إمداد الدول والتجمعات السياسية بما يلزم، حتى حط بنا مطاف التاريخ في بواكير العصر الحديث الذي وصف بأنه حقبة الحداثة والتنوير، ويرى فيه بعض المؤرخين أنه بدأ مع بداية القرن السابع عشر، وقد أرجعه آخرون إلى القرن الخامس عشر مع بزوغ فجر الحركة الرومانسية وذيوع الفنون، هذه الحقبة من التاريخ التي أدى الفصل فيها بين الكنيسة والسلطة الزمنية مع ضعف نفوذ الإقطاع والنبلاء إلى التفكير جدياً بشكل من الأنظمة التي تحفظ الحريات وتعزز دور المواطن في صناعة الدولة وشكل النظام الأنسب له وهنا ظهرت الطبقة الوسطى وهي أقدر وأفضل الطبقات التي من الممكن أن تضطلع بمسؤوليات مهمة المطالبة بالحقوق وبث الوعي السياسي والسهر على رعاية الطبقات الأضعف والوقوف بوجه السلطة لو طغت أو تجاوزت على القانون . 

وقد كانت مفاهيم مثل الدولة الوطنية والسلطة والحريات العامة والمساواة والعدالة الاجتماعية هاجس الفلاسفة الذين لم تخل كتاباتهم ومؤلفاتهم من هذه المفاهيم وغيرها مما يتعلق ويرتبط بها . 

فجان بودان اعتبر أن الملكية المقيدة هي النظام الأنسب وأن الديمقراطية ترسخ الغوغاء وتضعف النظام، ويجد بودان أن القانون هو مصدر شرعية الدولة الوحيد وروحها الذي يوفر لها الشرعية، وتوماس هوبز يرى أن الطبيعة البشرية في صراع دائم، وأن الإنسان فيه ذئب يغذي الأنانية وحب الاستحواذ مما يعني ضرورة إقامة الملكية المطلقة التي تفصل في النزاعات وتفرض القانون وتنهي الفوضى ويكون ذلك وفق عقد اجتماعي يتنازل فيه الأفراد عن كل حقوقهم للحاكم ولا رجعة في هذا العقد “فتكون السيادة للدولة”، وهو يتولى بعدئذ إدارة الدولة بالشكل الذي يحفظ القانون ويوفر الأمن وتنتهي سيادة الحاكم المطلق في حال لم يستطع توفير الأمن لرعاياه وفي غيرها لا ينبغي الخروج عليه لأن ذلك يؤدي للفوضى، وجون لوك يرى أن الطبيعة يسودها الاجتماع والتضامن بين الناس ويجد أن الحكم هو ولاية أشخاص بتفويض الأمة فهو أشبه بالنيابة وتقع على الناس مسؤولية متابعة ومحاكمة الولاة، فيتعبر لوك أن الحكومات مسؤولة أمام شعبها وقد أقر مذهب الفصل بين السلطات في السياسة وأطلق سرب الحريات للأفراد، وأن لكل فرد ما لغيره وأن وظيفة الحكومة هي حماية الناس وصون الثروة والحفاظ على الحريات العامة، ومونتسكيو يحسب له تفضيل الملكية الدستورية كأفضل أشكال الأنظمة، أي أن يكون هناك إلى جانب الملكية برلمان يحد من غلواء الملك ويضمن تشريع ومتابعة حقوق الشعب، وكان يهتم بالقوانين ويجايل بينها وبين العوامل البيئية والثقافية في قوة القانون، ولم يجد ديفيد هيوم أن للعقل ذلك التأثير المطلق في صياغة النظام وأن العواطف والنوازع والتقاليد المؤثرة هي ما ينبغي أن تؤخذ في وضع نظام الحكم لأن ذلك يسهم في استقرار الدولة التي يفترض أنها صورة عن الشعب الذي أوجدها.

 ويقرر جان جاك روسو العودة إلى الطبيعة كأساس لفهم حالة الإنسان مع الدولة، لأن الطبيعة - الفطرة هي أكثر جدوى من العقل، وهناك حقوق طبيعية لابد من مراعاتها ومجاراتها، وعنده أن الناس طيبون بالفطرة والذي يفسدهم هو المدنية والأسباب الصناعية وأن الإرادة العامة هي ملاك القانون والأخلاق معاً، وغيرهم من الفلاسفة الذين ما انفكوا من التنظير للدولة والعقود الاجتماعية التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكومين وتصف حالة الطبيعة للمجتمعات قبل انخراطهم في النظام وقد تمكنوا إلى حد كبير من تشخيص مكامن إنتاج الدكتاتوريات وتوصيف الحلول الناجعة لذلك والتوصل إلى أفضل أشكال الحكم على اختلاف الرؤى التي قدموها ولكنهم أجمعوا على كون العقل هو المصدر الوحيد لإنتاج النظام الأنسب للمجتمعات والتأكيد على ضرورة إبرام عقد اجتماعي يحدد شكل علاقة الحاكم برعاياه وينظم تلك العلاقة .