أحمد نصيف.. مفاتن التجريد والتشخيصيَّة

ثقافة 2023/05/11
...

 خضير الزيدي 


ليس ببعيد عن أقرانه، والأسماء الفنية التي جاءت في فترة  التسعينيات. يقدم أحمد نصيف منجزا يليق باسمه الفني وبيئته العراقية، ويحسب له أنه استطاع أن يرتكز على مقومات أسلوبية، تميز لوحاته لما تحمله من لمسات تهتم بالحياة اليومية حتى وهو في أقصى الغرب، متخذا من السويد مكانا لهجرته، فكأنه يسعى لإقامة علاقات روحية بين الجذر المكاني وطبيعة نفسه التواقة، للاحتفاظ بخزين تراثي ومحلي وواقعي سيكون ذات يوم مشروعاً يلامس وجدان المتلقي لأعماله. إنه محترف مع الفن لكن بحدود معرفة باطنية من نوع خالص يقدمها في رسم مناخ البيئة وتمثيل صورة الواقع، سواء جاءت بما عشناه من ويلات وانكسارات وخيبات أو ما يرسمه من مجال ومساحة للتصور في ما نعيشه من أحلام وذكريات طفولة غارقة في الوجدانيات. هذه اللوحات التي يصيغ طاقتها تختزل مفهوم التصوف والاتحاد مع المكان لم تكن لوحاته تجريدية مفعمة بالبعد الهندسي، ولا تشخيصية ملتهبة بحدود طاقة رسم الإنسان ومحيطه ومستلزماته، بل هناك ترابط يجمع بين التجريد والتشخيص وفقا لاستبدال مكان وغرائز ما يوظفه، بمعنى أنه يثبت عبر الرسم بأن وحداته الصورية تنتهي عند مفاتن المكان المقدس واقعياً وليس تخييلاً، وطبيعة مثل هكذا تفكير يتواجد في الرسم سيثبت أن صاحبه اتخذ من ذاكرة المكان شرارة لانطلاق رؤيته جمالياً وفنياً. وهذا ما يجمّل لوحاته بطابع الألوان المنسجمة، والبعيدة عن التزويق لتستعير من خياله حكايات عاشها الفرد العراقي، وهنا لن نجد مهرباً من تأمل وقائع تلك الحكايات والانسجام معها، لما تحمله من تأثير وجداني عالق في ذواتنا. ولكن لنتساءل عن قيمة التجريد، هل يثبت مثل هكذا فن أنه كفيل بنقل وقائعنا عبر الاشتغال الفني؟ يبدو الذهاب إلى علة الهوية في الفن التجريدي قائما مهما علت رسومات الواقعية والتعبيرية والمزاوجة بينهما، ويبقى الخط الفاصل بينهما فاعلية مسار الرسم ومؤثراته، فلنأخذ مثلا (يقول بول كلي في كتابه نظرية التشكيل إن التشخيص يتعامل مع كيانات ترتكن إلى وظيفة حيوية) ومن يتأمل نظام لوحات أحمد نصيف سيجد أن عناصر التشخيص متكررة وباقية، بل ومدروسة البعد والتأثير، لأنه يجد فيها ركائز فاعلة ومتلازمة لها بعدها الجمالي والتجريبي، فلم تخرج لوحاته عن نظام الإعادة في الوحدات مثلما يحدث في رسم الساق والمظلة والدراجة الهوائية والجدران العالية والطائرات. لقد اعتاد أن يعيدها من ضمن قوة الذهن بالتوازي مع مشتركات، لها مسار في الفعل الجمالي من حيث تكرار الاشكال. وهذه اللعبة البصرية متجهة لاستيفاء شرطها الفني والتعبيري، اعتمادا على حساسية الدال في اللوحة والمدلول، فكل ما يريده أحمد نصيف سنجده متسعاً في الرؤية القابعة في اللوحة، وكل ما تؤشر له سيمياء الوحدات.. وهكذا تبدو حدود لوحته معروفة وليست بحاجة إلى تجميل مصطنع بحيث يثقل كاهل السطح التصويري بمزيد من العناصر أو التلاعب، لكنه في الحقيقة ماهر بأن يجعل الوحدات، مشيدة باتقان من حيث البعد والضبط وتشييد هيكلية تجلب لنا اندفاعا، ونحن نراها في كل عمل لهذا الفنان المجتهد، سنجد قضية يتبناها، اعتزازا بالمكان العراقي أو بالتصور الذهني المناهض للمحتل أو الممتد للدفاع عن الإنسان وكرامته والاحتفاظ بذكريات إنسانيته. إنه لا يود أن يرى استلابا للإنسان، ولا تدنيا في حرياته ولا يرغب برؤية قوافل الضحايا كل لوحاته تحيط بهيكل الحرية. 

ومن هنا بدت أعماله تجمع بين التجريد والتشخيص، ويمهد في الرسم لوجود لحظة تتعالى فيها شروط الابداع. أعتقد أنها رؤية متصوف يسمح لكل وحداته الصورية أن تترابط وتتآزر، لتتخذ عبر نزعتها البنائية وجود اشكال بسيطة تعتاد عين المتلقي على التعامل معها، ولكن لنتساءل هنا لماذا خيار التجريد؟ 

في الحقيقة أحمد نصيف ميال لمضاعفة الشعور في السطح التصويري في الغالب من أعماله، ويتجلى ذلك واضحا حيث منجزه الأخير، فهو يجد حريته بالتجريد، لاعتقاده أن الموضوع الذي يوظف له فنياً لا يمكن اختزاله بوجود وحدات تشخيصية أو معادل تعبيري، سيجعل من الخيال ملتبسا أمامنا. هناك مسألة ثانية أن التجريد الذي يسعى لتأكيده جاء وفقا لثراء في المعلومة، فنراه يضاعف منه نسيج علاقاته صوريا بالتتابع، وهنا يتجنب أحمد نصيف أي تلاعب في السياق الداخلي للخطوط أو الحركة وحتى المساحات الشاغلة، بحيث نرى لوحة تحتاج فقط لتأمل، أما توجيهها دلاليا فقد برع في بنائه بتصور لم يخرج بعيدا عن القانون الجمالي للعمل الفني. 

هذا الفنان تتراكم عنده أجزاء معينة في ذاكرته، ويمنحها عبر الرسم ديمومة البقاء مما يكسب صياغاته البنائية طاقة عاطفية، لها علاقة بذواتنا المستلبة والتواقة إلى 

الحرية.