في صندوق بريد الحرب.. رسائل إلى زوجتي

ثقافة 2023/05/11
...

  طالب عبد العزيز 

احتفظ برسائل كثيرة، كنت قد بعثت بها لزوجتي، من جبهة الحرب مع إيران، في ثمانينيات القرن الماضي، يوم أخذت جندياً إلى هناك. فيها ما هو شخصيٌّ وعامٌّ وغيرُ ذلك. كنت قد عثرت عليها مصادفة بين أوراق كثيرة، رسائل مضى على بعضها أكثر من أربعين سنة، كتبتها خائفاً ومتشوقاً ويائساً، هوَّمت بين سطورها، شرّقتُ وغرّبت. الخوف من الموت واحد مما أنطوت عليه الرسائل تلك، أما الضجر والنهايات غير المعرفة فليست تبارحها، ولطالما شهقت فيها حنيناً للبيت، ولزوجتي، ولابني أحمد الذي ولد قبل اندلاعها بسنة، كتبت فيها ما عن لي وما لم يعن، وما نضج ولم ينضج في القلب، لم تخل من الأخطاء والضعف، وبالقدر الذي لا تحمل فيه صفة أدبية وثقافية أجدها تشكل وثيقة صادمة ضد الحرب، يجد القارئ فيها صورة مختلفة من صور القهر والعذاب الإنسانيين.    

ط . ع                           

الحبيبة أم أحمد 

زوجتي العزيزة 

تحياتي وبعد 

لقد تأخرت الإجازةُ، ولم أستطع الحضور إليكم يوم الثلاثاء، حيث موعد الإجازة.

سوف أقْدم بإجازة يوم الثلاثاء القادم، والذي يصادف 30/ 11/ 1983 إذا لم يحدثْ ما يؤخرها. أما إذا تأخرت فسوف أغيب من أجل أن أرى عبد الواحد، وإذا حضر قبل الموعد بلغيه أن يتأخر من أجلي، أنا في صحة جيدة جداً فلا تقلقوا عليّ. 

تحياتي للجميع، ولك، ولأحمد، ولأمّي، وعمّي نجم، وميادة، وسلام، ووسن، وعزيز .. وبيت عمّي كافة، وجميع من يسأل عنّي ودمتم.

في 25/ 11/ 1982 

 عنواني :

فل4/ العمارة 

رقم الوحدة 7766

ج م ح  طالب عبد العزيز 


بسم الله الرحمن الرحيم 

تحية طيبة:

إلى الزوجة الحبيبة ك 

مع التحيات 

    في البدء لم أكن قد نويت ارسال الرسالة هذه، لكنّي لم أستطع أن تكوني بعيدة عنّي هكذا، ولهذه المدة. أنا أرسل الرسائل لك وعبد الله يجيب!، فلماذا لم ترسلي لي رسالة؟ أنا أحبُّ من يسأل عنّي، لماذا لم تسألي عنّي برسالة؟ لقد تلفنتُ لكم مرتين، وأرسلت رسالة. علمت فيها بأنَّ عبد الله كتب رسالة لماجد، وهو في الدائرة، أي في اليوم نفسه الذي وصلت فيه رسالتي له. المفروض أن يتفق مع ماجد حول موعد آخر، لكي ترسلي فيه رسالة لي. 

 المهم، كيف حالكم الآن؟ لقد عرفت عنكم الخير من خلال عبد الله، في التلفون. في الحقيقة إن هذه الرسالة لم أجد داعياً لارسالها لأني بصحة جيدة، ومرتاح جداً، ولا يهمني شيء سوى أن أراكم، لقد اشتقت لكم كثيراً، أحبّكم جميعاً، لقد حصلت على علبة كبيرة من حليب نيدو، السريع الذوبان، ونصف علبة أخرى، ومعذرة من (جمهورية) والأطفال، لم أستطع أن أشتري لهم ملابس، لانَّ نقودي (وشلت) أيْ خلصت.

  المصروف هنا كثير(المصروف أي الأكل) نحن نأكل على حسابنا، ونأكل كثيراً جداً، فالمناخ يشجِّع على أن يصبح الإنسان حيواناً، وحاجة الحيوان هي الأكل طبعاً.

 ملحوظة: لقد أرسلت طيَّ هذه الرسالة كتابَ تأييدٍ للراتب، خذيه لهناء، بأسرع وقت. 

سلامي لأمّي، ولعمّي، ولك، ولأحمد، ولعبد الواحد، وللأطفال، وسالم، وكل من أعنُّ عليه. لا حاجة لكي ترسلي بيد صاحب الرسالة رسالةً، لأن موعد إجازتي عند انتهاء إجازته.

   سأكون عندكم يوم الخميس أو الأربعاء ليلاً، إن شاء الله، إذا لم يكن هناك ما يؤخر الإجازة، اتمنى ألا يقع هذا.

   تقبلوا تحيات من يتألم من أجلكم

 ومن تحمل الدنيا لكي تنعموا بنعيم الحياة. 

طالب عبد العزيز 

أربيل ت1 1983 

العزيزة أم أحمد 

تحياتي 

لا زلت في مكاني بالعمارة قرب المدينة، ولا حاجة لكم كي تسألوا عنّي، فأنا في صحة جيدة. لا أفكر إلا فيكم، ويؤذيني السؤال عنكم. سوف أقدِم في إجازة لمدة ثمانية أيام، يوم الثلاثاء القادم إن شاء الله، إن لم يكن هناك عارض.

لا داعي للتفكير بي ثانية، لقد أضرَّ بي الشوقُ، وطالت المدة بيني وبينكم. 

أنا لا أصلح للجيش، لقد أتعبني النهوض مبكراً والعيش بمفردي، لقد عنّت يداك عليّ، ولطالما نسيت وجوهكم، أنا أنساكم كلَّ يوم لشدة ما أنا فيه.

أنا تعبان جداً، أفكر بالمرض، وأفكر بالهروب، أفكر بالعاهة، أفكر بك وبأحمد  وبأخي أفكر بالجميع..

لقد أصبحت عبداً رقيقاً، لا يقوى على مصالحة أحد، ولا يقوى على مجاملة أحد، لقد أذلتني العسكرية.

فكّري معي كيف أستبدل حياتي هذه، أنت تعرفين مزاجي، لقد اصبحتُ أهانُ من قبل أسوأ الناس، وأقلّهم قدراً، لقد مرغوا كرامتي، وأصبحتُ لا أطيق الناس هنا. 


ملحوظة:

هذا لا يعني أنني بصحة غير جيدة، إنما العكس تماماً

فلطالما تمنيت المرض ولم يأتِ. 

لحين وصولي سوف أكون قد رتبتُ لي حلّاً، أنا مسكين جداً الآن. أفكِّر بعكس ما أحيا، وأحيا بعكس ما أريده، أنا حيوانٌ أدجَّنُ كلَّ يوم، في المكان نفسه، عبثاً أحاول ترويض نفسي، 

تذكري أن رامبو لم يطق العيش في فرنسا، ففرَّ إلى الحبشة. 

كيف أطيق العيش في الجيش؟ هم ينزعون عنّي كلَّ يوم رداءً، ردائي الذي تعبتُ بارتدائه، حتى كسوتُ نفسي بتلك الحُّلة التي لا تليق إلا بي.

اشتقت لملابسي، لحذائي الأبيض، اشتقتُ لقميصي الذي أتيتِ لي به من كربلاء، اشتقت لجلسة خلف منضدتي، اشتقت لنيرودا ولكِ ولكم.. 

اشتقت للتلفزيون وللحمّام والمرافق وللمطبخ.. ولأمّي، ولجلسة في الديوانية، اشتقت لأكلة طيبة، لبطانية مَدَنيّة، 

لفتحة كنتور، أنا أعيش بالغلط، أعيش بالخطأ. 

معذرة لقد قالوا لنا اخرجوا من القاعة. فقد دقت الصفّارة 

ملحوظة : لا تقرئي هذه الرسالة على الجميع، بل اقرئيها أنت فقط وتقبلي تحياتي وقبلاتي لكِ ولأحمد وللجميع.  

                                                          1982-10-13