الحرب الثقافيَّة.. على موائد من رماد

ثقافة 2023/05/11
...

 حسن الكعبي 


يعتمد الروائي لطفي جميل محمد في بناء مرويته الموسومة "موائد من رماد"، والصادرة عن دار ضفاف 2017، على الوقائع التاريخية التي احتضنت الحروب وما يترشح عنها من دمار، بوصف هذه الوقائع بنى نصية حاضرة في المتن السردي والذي يحجب البنى النصية الغائبة المتمثلة بمقصديات الكاتب ورؤيته للعالم – بحسب غولدمان – فالنص كما يذهب إلى ذلك – تودورف- يتشكل من بنى نصية حضورية هي مجموعة النصوص المستدعاة والمتداخلة أو المتعالقة في متن نصوصي هو ما يعبر عنه بــ"النص الغائب" الذي يسمح بتبلوره وظهوره فعل التأويل الذي يقع على مقصديات الكاتب الكامنة خلف المتراكمات النصوصية، والنصوص الحاضرة في بناء مروية "موائد من رماد" حجبت النص الغائب بفضل حضورها الكثيف لكونها متشكلة من وقائع تاريخية تمثل الحاضر والماضي القريب والبعيد وتمتد نحو المستقبل عبر الاستشرافات التي تستقرئ الواقع وتبني عليه استنتاجاتها.

ترتكز السردية على تقنية - الميتافكشن - التي تسمح بتساير الأحداث ضمن مرويتين هما مروية اللواء احمد الذي تعتقله القوات الأميركية بعد أحداث 2003، ومروية الجندي عبد الله التي يعثر عليها أثناء تفتيش مقتنيات اللواء أحمد ضمن  أوراق تضم سردية الجندي عبد الله الذي عايش أحداث الحرب العراقية الإيرانية، وتروى السرديتان، بمنظور الراوي العليم للأولى والراوي الضمني للمروية الثانية التي تعتمد الانثيالات الحرة لجندي جريح يعيش هواجس ومخاوف شتى في عزلته داخل مغارة مظلمة يراقب من خلالها تحركات العدو الذي يفصله عنه بضعة أمتار.

الهواجس وتداعياتها تسمح بإبراز منظورات عبد الله للحرب ومبرراتها، والأسباب التي تجعل هذا القتل المجاني سارياً منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا؟ وفي سياق هذه التساؤلات المحمومة التي تتحرر عن وعي السارد، يتشكل المنظور الإنساني لإدانة الحرب التي حولت كل شيء إلى رماد، ومع هذه الأسئلة الانطولوجية في تشريح الوضع البشري يتوصل عبد الله إلى فكرة جوهرية ستكون بمثابة سردية ثالثة او سردية محايثة تتمظهر بفعل توضح مقصديات الكاتب، والفكرة الجوهرية هي أن شكل الحروب لم يتغير وأن شكل الغزاة هو ذاته لم يتغير، فملامح الأعداء الذين يحاصرون مغارته هي ذاتها الملامح التترية الدارسة في التاريخ، وكأن هذه الملامح هي الأشباح القادمة من عمق التاريخ لقتله واستباحة كل شيء.

إن سردية عبد الله وعلى الرغم من أنها انطلقت من أفق سردية اللواء احمد وعزلته في المعتقل الأميركي، إلا أن حضورها المهيمن في المتن الروائي، مكنها من التشكل كخلفية للسردية التي انطلقت منها، كما مكنها من التحول إلى كون دلالي يمكن الركون إليه في تأويل سردية اللواء احمد والتي ستكون بمثابة النص الغائب الذي يتضمن الدلالة الكبرى للنص وما يتحرك ضمنها من مقصديات الكتابة، بمعنى أن هذه السردية ستقرأ عبر الاستعادة أو الفلاش باك.

تتضح مقصديات الكاتب عبر هذه السردية من خلال بنائها ضمن إطار حواري يجري بين اللواء احمد والمحقق الأميركي، إذ إن هذه الحوارية الاحتدامية تتحول هي الأخرى إلى حرب تشبه الحرب الأميركية على العراق بشكلها الامبريالي المعتمد على الإنشاءات المعرفية والصيغ الثقافية في استلاب الآخر واستعماره، وبهذا المعنى فإن الحوار يقيم تناصا ًدلالياً ومفاهيمياً مع الحرب الأميركية بأبعادها الامبريالية، فالحوار من جهة اللواء احمد كان يوضح للمحقق طبيعة الحرب الأميركية المدمرة والتي لم تستخدم فيها الأسلحة وإنما بنيت على هذا المخطط في الاستلاب الثقافي الذي سيسمح باستلاب كامل مقدرات العراق، فالشكل الامبريالي في أداء السياسة الأميركية سيكون مدمراً وأكبر بكثير من استخدام الأسلحة المستعملة في سردية عبد الله.

إن مخاوف اللواء احمد من ولادة مفاهيم جديدة مترشحة عن هذه الحرب تظهر في نهاية الرواية كحقائق مرعبة، بعد هذا التحول الثقافي الذي عصف بالعراق، والذي سمح بابراز فوضى نمت داخلها أشكال من المفاهيم العنيفة التي تبرر القتل واستباحة الدم مع غياب المبررات لهذه الاستباحة، كما رسم مشهد خاتمة الرواية باطلاق رصاص من ملثمين على جسد اللواء احمد، فالحرب في إطار هذه المقصديات لم تنته بمجرد غياب أدواتها، إنما هي مستمرة بأدوات أخطر بكثير، تتمثل بالتغيرات الثقافية الخطيرة المستجلبة مع هذه الحرب ضمن هذه الستراتيجيات المدروسة التي تسعى لأن تحيل كل شيء إلى رماد، ومن دون أن تعي المجتمعات المستلبة أخطار هذا المتغير الثقافي الذي ستكون نيرانه أكثر عصفاً من نيران الحروب السابقة.