التمرّد وثورة الذات

ثقافة 2023/05/13
...

  ميثم الخزرجي 


ما الدافع الذي يجعل الإنسان متمرداً؟، هل الوعي باعتباره حالة انتقالية مكتسبة تمنحه قدرة عالية على الخوض في المنحى الإشكالي، أم أن سلطة الما حول المتضمنة أبعاداً اجتماعية تسهم في تقويض الرؤى القائمة على الرفض في كيفية الإحاطة بجميع التفاصيل الحياتية التي تعنى بالفرد؟  وهل التمرد حالة ممسكة بالإنسان أم قوة جامعة تلزمه على أن يصفع السياق المعمول به، ليمكّنه بأن ينفلت من قيد المسلمات والحتميات المتوارثة؟ هل هو خلاص وطمأنينة أم ثورة وانتفاضة للوصول إلى المال، أم أنّه الخطوة المثمرة للبحث عن الوجود وحيازة الذات على الرغم من دخولها في مخاضات ديالكتيكية غير خاضعة للفرض والتنويه، لعله نسق نفسي يستثار متى ما وجد الإنسان نفسه بحاجة إلى التصريح بصوت له رجعه الأخاذ، لا أن ينتج عن رعونة تصرّف يتحرك صاحبها متى ما سنحت فرصة مماثلة للحديث، إذا قيس بحدث معكوس حيال واقعة معينة؟ وهل أن هذه السمة تفي حق الإشادة كجوهر وكينونة إزاء تصويبها كمفهوم، أم أنها نزق جواني غير خاضع للدرس والتأمل؟ هل التمرد ضرب من الجنون أم أنه انقلاب على هيكلية الفعل المستقر في الذات والروح والعاطفة؟ وهل ثمة اجتراحات معادلة تحوم حول هذه الماهية وتعنى بمضمونها الجدلي، كالتمرد على الذات أو المجتمع، أم أن هناك باعثاً فطرياً يأتي نتيجة الشقاء ليتصدر عمومية هذا المفهوم؟ هل التمرد موجة تخوض غمارها في الواقع ليصبح لها مريدون نتيجة التأثر أم حاجة تنفرد بمسعاها الملتبس لتحث الخطى للدخول في العمق وفقاً للصراع الدائر والفهم المتصل وما يترب عليه من طبيعة العيش والطقس المعرفي، ليعطي دلالة إزاء التصديق في متبنيات كهذه؟ وهل المتمرد صاحب أزمات نفسية أو فكرية ليتخذها وسيلةً أو سبباً لما يطرحه، أم يسعى إلى تبديد هاتيك الأزمات تبعاً لمقتضيات المفهوم وكنهه.

من الملاحظ أن خاصية القلق السائرة التي سوّرت إنسان هذا العالم والدعوة إلى الخروج من هذه الحياة بحصيلة مجدية، والتأمل في مجريات الواقع وسجاياه الناشئة لها أثرها الواضح في النزوع نحو إيجاد معنى آخر ومغاير للمسار التقليدي المحيط بالفرد، وأن تجد قيمة فعلية تستوطن الذهن واستنباط وجهة لها استبياناته، ليكون المؤهل المتبنى من قبل المعني باعتناقه لأيّ مذهب إنساني وما يتخلله من مفاهيم لها رؤيتها الجادة أو معتقدٍ له معياريته وأنساقه المدونة، وفقاً للحالة الجدلية المناطة له، بالتالي تكون الغاية المترتبة على استقراء سلوكيات كهذه ناجمة عن حضور الوعي واتخاذ قرارات تفنّد السائد، كأن تكون سياسية أو لاهوتية أو ما يعني بهاجس المجتمع واستخلاص حريته، وهنا يكون التحريض ناتجا من أزمة يعيشها الفرد، لينقلب على مضمونها، باحثاً عن منفذ للخلاص يتحرك به فكراً وطريقة تصل به للعيش وإبداء رأي دون أغلال وعقبات. 

ثمة سؤالٌ يتقصى أثر الطرح، هل أن التمرد نمطٌ وسلوك ذو نزعة وجودية خالصة يحاول صاحبها البحث عن الذات في المجمل الكلي لواقعه وبجميع تقسيمات هذا الواقع أسرة أو مقهى أو مكان عمل لفرض هيمنة معينة، دون أن يعطي براهين على ذلك؟ لعل كتاب (الإنسان المتمرد) للبير كامو أعطى دلائل حول هذا المفهوم ومضمونه الفكري والجدلي، وعن كيفية إزاحة المحاذير والتصدي لها والسعي للغور في دلالتها منقباً عن جوهر الإنسان وهنا تكون صورة المتمرد صورة غير مستهلكة أو متشحة بالانفعال 

والبهرجة، بل كاسرة للمهيمنات وراكلة للأزلي منها ليكون الباعث الرئيسي للتغيير هو إعطاء رفعة وجودية ناقمة على الإتباعية، التي تقوّض من عمل الإنسان وتشلّ وعيه، لتجد أن حياة المتمرد حياة جادة ساعية إلى إثارة الأسئلة التي تزيل عنه السخام وتجعل منه كائناً فطناً يهمّ بالعيش من دون وصايا من أحد ومنزوعة منه تراجيديا النهايات البائسة، وعن المعنى الحقيقي لهذه الحياة ما دامت الحلقة الاخيرة من هذه المسرحية هو الموت، وقد تتواجد عنده هذه المضامين في حال لو استقرت العبثية حيال التصرفات التي يقوم بها فلا يجد تبريراً آخر للجحيم سوى الموت، لذى عليه أن يأتلف مع القضايا الكبرى التي تصاحبه، وبنفس الوقت أن لا يكون مطواعاً طرياً فالحاجة الماسة للتصريح تصيّره إنسانا لا يهادن ولا يصاب بالسأم، ليصل إلى درجة الانتحار لذا فأن كامو على الرغم من تسخيف وسخرية الأقدار، التي ترافقه غير أنّه يرفض ماهية الانتحار، كونه يردعه في مزاولته للعبث، وهذا تمرد بالرفض حتى على قدرية الانسان نفسه، لذا فالحالة المصاحبة لمفهوم كهذا تكون ذات روح قادرة على إزالة المستحيل وتحجيم هالة الكارثة، بل تصغير محتواها، غير أن ما يشي إلى ثمة مسافة جدلية ذات قيمة إنسانية بين التمرد والعبث، وهذه المسافة تحتكم لقرارات الإنسان نفسه فمن عدّ الحياة بوصفها لعبة هزيلة لا داعي من ذكرها، فهذا تمرد عظيم وقد وصل من أقرَّ بهذه الرؤية إلى دراية مثلى صعبة المنال.