كيف قاوم الأدباء والكتاب الأنظمة الدكتاتورية في بلدانهم؟

ثقافة 2023/05/13
...

 حيدر علي الأسدي 

  "آه، م. فون غوته الشاعر الألماني العظيم، مؤلف آلام فرتر".. يقال هكذا هتف نابليون بونابرت عندما قيل له إن غوته ينتظر خارج الباب أثناء فطور نابليون في أحد الصباحات في فايمار الألمانية التي احتلها الفرنسيون بقيادته، والذي كان يسوق نفسه على أنه صديق للمثقفين والادباء والفنانين، والذي كان منبهراً بهذا اللقاء برواية (آلام فرتر) وقد ابدى لغوته كامل اعجابه بهذه الرواية. 

إن علاقة الادباء والفنانين بالحكام والطغاة والدكتاتور عبر المراحل التاريخية هي علاقة جدلية ما بين التنافر والتجاذب، فثمة من ارتضى أن يكون مساهماً في تدعيم حكم هؤلاء، أو التقرب منهم للحصول على مكاسب مادية أو اعتبارية، ومنهم من رهن فكره ونفسه ليكون المعارضة الناقدة لهذا الشكل من الحكم، وهم الأغلب من المفكرين والأدباء والفنانين في أوربا على وجه التحديد، بخاصة في تلك البلدان التي تهيمن عليها اشكال الحكم الانفرادي بفعل طبيعة تلك المجتمعات النامية أو التي تتعرض لازمات في حقب متفاوتة، فنرى العديد من هؤلاء الادباء قد ناهضوا وقاموا الطغاة عبر نتاجاتهم الفكرية والأدبية التي وثقتها الحركة النقدية والأدبية على امتداد السنوات، ونستعرض بعض النماذج بهذا الخصوص، وأولها رواية (السيد الرئيس) للروائي الجواتيمالى ميجيل انخل أوسترياس الحاصل على نوبل عام 1967، وهو الروائي الذي واجه متاعب سياسية جمة بسبب مواقفه المتشددة من أنظمة الحكم، وروايته هذه استوحى احداثها من الظروف التي جاءت بالرئيس السلطوي خورخه أوبيكو بمساندة من الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الرواية تتحدث عن الدكتاتور وبطانته من المنتفعين، الذين يسهمون بحجب الرؤية عما يدور حول هذا الدكتاتور، وهذا الأمر هو ما يحدث مع كل دكتاتور بالتأكيد، وكذلك هناك الغواتيمالي مانويل غاليتش الذي يعد من أهم كتاب المسرح في امريكا الوسطى المولود عام 1913، والمعروف بكتاباته المناهضة لديكتاتورية خورخي أوبيكو واشترك كرئيس لاتحاد الطلبة في الثورة الشعبية التي اطاحت بنظام أوبيكو، وقد كتب غاليتش عدداً من المسرحيات المهمة بهذا الخصوص ومنها: أناس طيبون ، بين أربعة جدران، ذهاب وإياب، و القطار الأصفر. 

وكذلك برز الروائي الكوبي ارماندو فالادار بكتاباته ضد الديكتاتور ودفع ثمن ذلك أن اختفى في ظروف غامضة بعد أن قضى في سجون كوبا قرابة اثنين وعشرين عاما، ففي عام 1986 نشر روايته (ذكريات السجن) وبعد ان ترجمت الرواية للغات عدة أحست السلطات الكوبية بضرورة التخلص من كاتبها، فقتلته في ظروف غامضة. 

بينما كانت رواية الشيلي الاديب خوسيه دونوسوا (منزل العسكر) تصور جواً فانتازياً يبرز خلالها طاغية يدعى "فنتورا" يعيش في قصر ضخم، مملوء بالسلاحف، وآكلة لحوم البشر، الذين ينهشون في أجساد سكان المنطقة، ويكون أبناء فنتورا هم أول من تنهشهم هذه المخلوقات المتوحشة، وكذلك كانت للكاتبة ايزابيل الليندي المولودة عام 1942 وابنة شقيقة الرئيس التشيلي الاسبق سلفادور الليندي تنتقد في أغلب أعمالها الديكتاتور في بلادها، وكانت قد نشرت روايتها الأولى (منزل الأرواح)، التي تتحدث عن شيلي والظروف التي يتولد فيها الدكتاتور واثر ذلك على المجتمع والنساء خاصة، واجبرت على السفر لفنزويلا منفية من رجال الطاغية آجوستينو بينوشيه، وكذلك يمكن أن يظهر هذا الدور في كتابات الإيطالية أوريانا فالاتشى وبخاصة في روايتها الأبرز (إنسان) التي تروى فيها قصة موت حبيبها اليوناني الذى وقف ضد الديكتاتور، الذي قام بانقلاب عسكري في اليونان.

هذه الرواية اقرب إلى السيرة الذاتية التي تروى فيها قصة ارتباطها بالمناضل اليوناني اليكو باتاجوليس، الذى جابه الديكتاتور. 

أما الروائي البارز غابريال غارسيا ماركيز ففي روايته (خريف البطريرك) فقد اعتمد أسلوب النقد الواضح واللاذع في تناول الدكتاتوريات، ومن خلال تصوير عوالم الدكتاتور والطاغي المملوء بالفساد والاغتيالات والتصفيات والتعطش للسلطة والتفرد بالقرارات في ظل التخلف، الذي تعيشه المجتمعات التي يحكمها الطغاة، ولعل أبرز مقاومة ومناهضة للدكتاتور (هتلر) فتعرف من خلال ما قدمه الكاتب الألماني برتولد بريخت، رغم أنه هرب إلى الدانمارك وامريكا بعد استيلاء هتلر على الحكم والذي احرق العديد من نتاجات الادباء والكتاب ومن ضمنها كتابات بريخت، بل أن الشرطة الألمانية اقتحمت أحد عروض مسرحيات بريخت واعتقلت منظم العرض بتهمة الخيانة العظمى. 

وكتب بريخت أهم مسرحية ينتقد فيها النازية وكانت بعنوان (الخوف والبؤس في الرايخ الثالث) وهي مسرحية مهمة جداً تعرض بريخت خلالها إلى آليات القمع في النظم الفاشية، وكذلك عارض الكاتب الألماني كارل فون أوسيتزكي النازية، ولكنه حوكم بتهمة الخيانة العظمى واحتجز بالسجن الوقائي في برلين، المعاناة الحقيقية لهذا الكاتب كانت مع مجيء هتلر إلى دفة الحكم، وحين نال أوسيتزكي جائزة نوبل قابل هتلر هذا القرار بغضب كبير وعدها إهانة شخصية له. 

وعلى خلفية ذلك صدر قرار بمنع أي مواطن الماني من قبل هذه الجائزة بتخصصاتها كافة، بينما كان الكاتب الألماني إريا ماريا ريمارك جندياً في ريعان شبابه وأصيب عدة مرات في الجبهة الغربية فكتب روايته الأهم (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) عن الحرب العالمية الأولى وملابساتها وحياة الحرب والموت المجاني وهو يصور حياة جنود المان شباب سيقوا للموت عنوة، وهي رواية ادانة للحرب بصورة واضحة، لذلك عدها نظام هتلر تهديداً لصورة المانيا وجيشها، واغضبت هتلر فقرر معاقبة صاحبها، ولكن ريمارك نجح في الهرب قبل أن يبطش به هتلر. 

ولم يكتف هتلر بهذا، بل أمر كل مواطن الماني أن يقوم بتسليم النسخ التي يمتلكها من هذه الرواية لتحرق علنياً، وكانت ضحية ذلك اخت الكاتب التي اعدمها النازيون انتقاماً من أخيها وروايته، وكان من بين الذين ناهضوا هتلر هو الروائي الألماني الحاصل على نوبل في الآداب عام 1929(بول توماس مان) وهو من الادباء الذين هربوا من بطش هتلر، فأسس صالوناً أدبياً ضم أدباء المعارضة، الذين طاردهم هتلر وهجرهم وكان يشجعهم على الكتابة ضد النظام النازي وفضح سلبياته وطرقه البربرية في التعاطي مع الحكم وذلك بالاعتماد على الكلمة والفن لفضح هذا النظام الوحشي، وقد سحبت الجنسية الألمانية من (توماس مان) وحرقت اعماله علنياً امام الناس. 

اما في روسيا فهناك الكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف ظهرت مسرحيته المعادية للسوفييت بعنوان (رجل سوفييتي)، ونشر كذلك (دعوة للعذاب) والتي تحمل عداء شديد للحكم التوليتاري السوفييتي. 

وعندما نال الاديب بوريس ليونيدوفيتش باسترناك جائزة نوبل للآداب عام 1958، لم توافق السلطة السوفيتية بقيادة خروشوف على تسلم تلك الجائزة وعدتها عملاً سياسياً ضد الدولة السوفيتية، هذا الاديب تحول لأكثر شخصية مكروهة بالاتحاد السوفيتي عقب فوزه بجائزة نوبل للآداب وكتب روايته (الدكتور جيفاغو)، والتي ساهمت أمريكا بالتسويق لها وسرعان ما تحولت لرمز المقاومة ضد النظام السوفياتي، ونال عنها جائزة نوبل للآداب مما اثار حفيظة النظام السوفيتي وتوعدوا بطرده النهائي من البلاد ومعاقبة عائلته في حال مغادرته لاستلام الجائزة، اما الاديب الروسي ألكسندر سولجنيتسين الذي خرج من السجن بعد حملة خروشوف ضد الاضطهاد الستاليني فقد كتب روايته المهمة رغم قصرها ( يوم واحد في حياة ايفان دينيسيفتش)، متحدثاً عن السجون والمعتقلات في زمن ستالين، والتي استخدمها خروشوف في حملته ضد ستالين. 

أما الروائي والمسرحي الروسي ميخائيل أفاناسييفيتش بولغاكوف فقد منع عروض مسرحياته أو نشر اعماله القصصية واقصي عن هذا العمل، فتقدم برسالة إلى الحكومة السوفياتية تسمح له بمغادرة البلاد، ولكن ستالين اتصل به واقنعه بالعمل في مسرح موسكو الفني، ولكن علاقتهما بقيت متشنجة وتشوبها المخاوف بالنسبة للأديب، إلى أن كتب بولغاكوف مسرحيته (باتوم) المكرسة لسيرة ستالين في شبابه، ولكن ستالين منع المسرحية. 

الأمر كذلك بالنسبة للشاعرة الروسية (آنا أخماتوفا)، التي أعدم النظام السوفيتي زوجها الأول نيكولاي جوميلوف، وأمضى ابنها ليف جوميلوف وزوجها الرضائي نيكولاي بونين سنوات عديدة في معسكرات العمل «غولاغ» وكانت تتوجس من تعرضها للاضطهاد والقمع في عهد ستالين، وكتبت قصيدتها الشهيرة باسم (الغولاغ)، التي تدين معسكرات الاعتقال التي أقامها نظام ستالين في الاتحاد السوفيتي آنذاك، ومن خلال ما تقدم بأن حكم ستالين شهد تعرض العديد من الادباء والفنانين إلى المضايقة والقمع أو السجن والتعذيب والاعدام. 

وفي روسيا الحديثة برزت رواية (الخيمة الخضراء الكبيرة) للروائية ليودميلا يفجينيفنا أوليتسكايا، والتي تدور عن الكتب المحظورة من النظام السوفياتي. 

وتعد هذه الروائية من المعارضين لنظام بوتين، والامر ذاته مع الكاتب المسرحي البريطاني (ديفيد هير) الذي كان يوجه انتقاداته المستمرة إلى الانظمة المعاصرة وحكامها، لا سيما في مسرحية (أشياء تحدث)، التي انتقد خلالها حرب امريكا على العراق عام 2003 من خلال قطبي الصراع جورج دبليو بوش ودونالد رامسفيلد. وحتى اللحظة نشهد العديد من النتاجات الأدبية التي تتنقد الأنظمة الدكتاتورية سواء الأجنبية أو حتى العربية والتي غالباً ما تجد التسويق والرواج بعد رحيل الدكتاتور بخاصة في منطقتنا العربية، وكل هذا يدلل على أن للكلمة ذات تأثير الرصاصة في المقاومة الفكرية والمناهضة للأنظمة التعسفية في كل البلدان.